مهرة من ساحة ( اليرموك ) - جاسم محمد الصحيح

مهداة إلى الاستشهادية ذات الستة عشر ربيعاً ( آيات الأخرس )
قبلَ أنْ تُعلنَ ميلادَ جناحَيْهَا
وتنضمَّ إلى جِنْسِ البلابِلْ
أَنْفَقَتْ من ياسمينِ العُمْرِ ما يكفي
لِتَسْتَنْبِتَ في الحُلْمِ
من الوَرْدِ شعوباً ومن التينِ قبائِلْ
وانتهَتْ في أُمَّةٍ
يبكي بِها التينُ على أغصانهِ والوردُ ثاكِلْ
أينَ تُؤوي حُلْمَهَا ..
والبندقيَّاتُ ضيوفُ اليأسِ في الأُفْقِ
ولم يبقَ على الأرضِ قطافٌ خَيِّرٌ
تُغري بهِ جوعَ المَنَاجِلْ
غربةٌ تزحفُ في الأشياءِ كالأفعَى
وقهرٌ هائجٌ يهوي على الروحِ كأسنانِ المقاصِلْ
نَقَّبَتْ كلَّ التضاريسِ على خارطةِ الكونِ
ولكنْ لم تجدْ رأسَ ( فلسطينَ ) على تلكَ الهياكِلْ
كلُّ شيءٍ حولها سلسلةٌ تعتقلُ الجوهرَ في الروحِ ..
ولكنْ حُلْمُها الأخضرُ يلتفُّ
ربيعاً ناعساً حَولَ السلاسِلْ
لم تَجِدْ من وطنٍ أغلى من الإيمانِ بالوعدِ ..
ومن يخرجُ من إيمانهِ
يخرجُ منفيّاً من التاريخِ ، محروقَ المراجِلْ
أيُّ أُنثىَ طلعَتْ في موسمِ الثورةِ
كي تكنسَ من واحتهِ كلَّ الرجولاتِ المزابِلْ
عَلَّقَتْ تاريخَها في طَرَفِ الكوفيّةِ الشهباءِ
وانقضَّتْ على الحاضرِ غضْبَاتٍ صَواهِلْ
--------------
بِحِزامَيْنِ حبيبينِ من الثورةِ والإيمانِ
شدَّتْ خصرَها الناسفَ حُسْناً
وأدارَتْ شعرَها للبحرِ في ( غَزَّةَ )
كي تستبدلَ الشطَّ بِشَطٍّ من جدائِلْ
ثمَّ مالَتْ جهةَ النهرِ
وأهدَتْهُ يَدَيْهَا
ضِفَّتَيْنِ امتدَّتَاَ بالعُشُبِ الأحمرِ من مَرْجِ الأنامِلْ
هاهُنا خارطةُ الجرحِ ..
هُنا تمتدُّ بينَ ( البحرِ ) و ( النهرِ )
سُلالاتِ براكينَ وتاريخَ زلازِلْ
وهُنا ( آياتُ ) ما بينَ الحزامينِ الحبيبينِ
بَدَتْ جملةَ عشقٍ بينَ قوسينِ ..
وهيهاتَ
فمَا في جُملةِ العشقِ فواصِلْ !!
حَلَّقَ ( النحوُ ) بِها
فاجتهَدَ ( الرفعُ ) كما لم يجتهدْ من قبلُ
وانحازَ إليها كلُّ ( مفعولٍ بهِ )
يرفعُهُ المقلاعُ بالعزّةِ كي يصبحَ ( فاعِلْ )
أيُّ درسٍ عاصفٍ ينتظرُ الشرحَ !
أفيقي يا كراريسُ
فهذي حصّةٌ من خارجِ المنهجِ
ما مرَّتْ على ذهنِ الجداوِلْ !!
لَبَسَتْ أقمارَها طرحةَ عرسٍ..
والنجومُ اتَّخَذَتْ موقعهَا الأجملَ في العينينِ..
وامتدَّتْ على أطرافِها كلُّ السواحِلْ
وانثنَتْ ( آياتُ ) تختالُ ..
وكوفيّتُها تختصرُ البُعْدَ الفلسطينيَّ في خارطةِ الكونِ
وتجلُو طفلةً كاملةَ الوعيِ ..
على جبهتِها قامَتْ قياماتُ المشاعِلْ
عُمْرُها ( ستٌّ و عشرٌ ) من سنينٍ
وألوفٌ من بواريدَ
وجيلٌ من قنابِلْ
وجنتاهَا بيرقانِ ارتفعَا في أَلَقِ النصرِ على كفَّيْ مُقاتِلْ
قَدُّها ..
يا نهرُ حدِّثْ عن تَثَنِّيكَ و يا نخلُ تطاوَلْ
مُقلتَاهَا ..
هل رأيتَ الشمسَ تنصبُّ ينابيعَ من الجمرِ
وهل أبصرتَ في الطوفانِ أمواجاً تقاتِلْ !!
ومُناهاَ :
هاهُنا التاريخُ يرتدُّ إلى أعراسِ ( بابِلْ ) !!
أيُّ وعيٍ ثائرٍ هبَّ كما الريحِ
لكي يطفئَ إشراقةَ تفَّاحِ الخياناتِ بِبُستانِ المهازِلْ
طلعَتْ تحدو مطايا رحلةِ الصيفِ
على إيقاع ممشَاها
وتمتصُّ لُهاثَ الدربِ من صدر القوافِلْ
حَدَّقَ الدهرُ
فألفَى ( خولةً ) تبعثُ للأجيالِ من حُفرتِها إحدَى الرسائِلْ
مهرةٌ قادمةٌ من ساحةِ ( اليرموكِ )
ظلَّتْ تعبرُ الأصلابَ من فحلٍ إلى فحلٍ
وتمتصُّ الفحولاتِ إلى قعرِ المفاصِلْ
كلَّمَا شدَّتْ خُطاها
كَسَرَتْ ظهرَ المسافاتِ وأضلاعَ المراحِلْ
غَمَزَ الخُلْدُ لها
وَهْيَ تقودُ الريحَ في دربِ الرسالاتِ ..
ومُهْرُ الريحِ جافِلْ !
غُضَّ منْ طرفِكَ يا خُلْدُ ..
فما كنتَ تُجيلُ الطرفَ
لو أدركتَ منْ كنتَ تُغازِلْ !!
ضَحِكَ الدربُ
غداةَ المهرةُ البِكْرُ أحسَّتْ بِجنينِ الفتحِ
في أحشائها يهتزُّ ..
فاهتزَّتْ
وراحَتْ تنظمُ الشارعَ عقداً:
خيطُهُ الأرضُ وحبَّاتُ لآليهِ المنازِلْ
وتدلَّى الغيمُ قرطينِ بِأدنى أُذُنَيْهاَ ..
والعصافيرُ
علَى أقدامِها صارَتْ خلاخِلْ
وتَهادَتْ وَحْدَها
لولاَ حقولُ القمحِ تنصبُّ على الظهرِ بِشَلاَّلِ سنابِلْ
وحدَها كانَتْ
ولكنْ غابةُ الزيتونِ في أعطافِها ترقُصُ ..
والمجدُ غصونٌ تتمايَلْ
وَحْدَهَا كانَتْ ..
فقلبي الفاجرُ الكافرُ
لا يبصرُ في الفستانِ إلاَّ زهرةً واحدةً
حجَّبَها اللهُ بإكسيرِ الفضائِلْ
يا إلهي .. يا إلهي ..
كمْ من الإيمانِ أحتاجُ لكي يدركَ قلبي
أنَّ في فستانِها ألفَ مناضِلْ ؟!
-----------------
نَفَحَتْ وجهَ المَدَى
مثلَ نسيمٍ مُصبحٍ
هبَّ على أَوجهِ أشياخٍ تقاةٍ
أكملُوا تَوَّاً صلاةَ الفجرِ
وانسلُّوا منَ المسجدِ أرواحاً كوامِلْ
مالتِ الشمسُ لها
وانتصَبَ الظهرُ أذاناً
والمناراتُ اشرأبَّتْ في الصدَى ..
كلُّ جهاتِ الأرضِ حُبلَى بأذانِ الظُهرِ
إلاَّ جهةٌ واحدةٌ بالعُهْرِ حامِلْ
كرَّتِ المهرةُ كي تكملَ صوتَ اللهِ في الأبعادِ ..
هذي لحظةُ الوحيِ دَنَتْ
والأنبياءُ انتظروا ( الآياتِ )
فيمَا ( مريمُ ) العذراءُ كانتْ بانتظارِ ( التمرِ ) في ( المحرابِ ) ..
يا الله !! يا الله !! يا الله !!
ما أكثرَ ما أشعلَهَا الإلهامُ طُهراً
فاستقالَ الطينُ في أعضائهَا من عمَلِ الطينِ
وشَعَّ الوحيُ برقاً خاطفاً
فَجَّرَها في أَلَقِ الفَرْضِ تراتيلَ
كأنَّ ( الصُحُفَ الأولى ) تَجَلَّتْ دُفعةً واحدةً
واكتملَ التنـزيلُ ..
ها قد حصحصَ الفجرُ فكلُّ الليلِ باطِلْ !!
من هُنا يا ( أختَ هارونَ ) خذي تمرةَ محرابكِ ..
هذي نخلةُ اللهِ
وهذَا تمرُها تَمرٌ إلهيُّ الشمائِلْ !!
-------------
هكذَا ( آياتُ ) لَبَّتْ داعيَ ( الجُمعةِ ) للذِكرِ
و صَلَّتْهاَ من القلبِ وجوباً ونوافِلْ
ثُمَّ عادَتْ بِربيعٍ شاعرٍ في دَمِها المنظومِ
واشتاقَتْ إلى تقفيَةِ الماءِ بِمنثورِ الجداوِلْ
وأحالَتْ من دَوِيِّ الجسَدِ الهادرِ
لحناً واحداً
وَزَّعَهُ الحبُّ تقاسيمَ على كلِّ ( الفصائِلْ )
هكذَا عادَتْ ..
وفي أقدامِها آخرُ أنباءٍ عن الأرضِ أذاعَتْهَا المعاوِلْ
صَفَّقَ الموتُ لَهَا
مِمَّا رأى من روعةِ الجرأةِ
واهتزَّتْ من الإعجابِ روحُ الأرضِ ..
فاحتارَ المدَى :
هلْ كانتِ الأرضُ تُداجيها
وهلْ كانتْ يدُ الموتِ تُجامِلْ ؟!!
آهِ يا ( آياتُ ) ..
يا بوصلةَ القِمَّةِ ..
يا موهبةَ الينبوعِ ..
يا فجراً على السفحِ تُؤاخيهِ الأيائِلْ
يا ( حديثاً ) في ( صحيحِ ) الطيرِ ( تَرويهِ ) العنادِلْ
سامحيني حين أتلوكِ
وأستأذنُ فيكِ الشرفَ السامي ..
فما من عربيٍّ شاعرٍ يجرؤُ
أن يرفَعَ في عينيكِ عينيهِ
وأن يختطَّ حرفينِ عنِ العشقِ ..
فهذَا دمُكِ الزاحفُ عبر الوطنِ الأكبرِ
مازالَ يُعرِّي الشعرَ والعشقَ ..
أَراني قامةً من خجلٍ في حضرةِ الصمتِ..
اعذُريني في انتماءٍ مسَّهُ العُقمُ ..
كِلانَا يأكلُ الحنظلَ من فاكهةِ القُربىَ
وزقُّومُ العروباتِ علينا يتناسَلْ
طاشَ بي لُبِّي ..
أَ هذي أُمَّةٌ أمْ كتلةٌ من عَدَمٍ أخرسَ ؟؟
ما أكبرَ هذا العدمَ الأخرسَ !
ما أكبرَ هذا الخَرَسَ المعدمَ !
صارَ القلبُ مِمَّا قَرَّحَ الحزنُ بهِ نبعَ دمامِلْ
كلَّما جُنَّ جنوني
رحتُ لِلَّوعةِ أستفتي
وحينَ اجتهدَتْ في دميَ اللوعةُ
زنَّرتُ ضلوعي بِعُبُوَّاتِ احتجاجٍ وحزامَينِ منَ الشَجْبِ ..
وحانَتْ ساعةُ النارِ فَـخانَتْني الفتائِلْ
خِلْقَتي ناقصةُ التكوينِ ..
هل يكملُ مخلوقٌ بلاَ حُرِّيّةٍ ؟
هيهاتَ .. هذا ما تقولُ البندقيَّاتُ ..
فلا بُدَّ إِذَنْ من طلقةٍ تكملُ تكويني
وتسمو بي إلى أحسنِ تقويمِ من النخلِ تَمَنَّتهُ الفسائِلْ
----------------
علِّمينا الحُلمَ يا ( آياتُ ) ..
هل حوصلةُ الطائرِ كونٌ من زغاريدَ ..
وهل ثمَّةَ طيرٌ خُلِقَتْ دونَ حواصِلْ ؟؟
كنتِ أعلَنتِ لنا عن موعدِ ( الطوفانِ ) بالأمسِ
وجثمانُكِ أهدَى أوَّلَ الألواحِ
كي نصطنعَ ( الفُلكَ )
ولكنْ لم يجئْ ( نوحٌ ) ..
هُنَا في الأُمَّةِ الغرقىَ
مُسُوخٌ لبَسََتْ هيئةَ ( نوحٍ )
فاستحالَ الدمُ نفطاً ..
والشعاراتُ أُصِيبَتْ في المقاتِلْ
من ( جِنينَ ) ابتدأََ ( الطوفانُ ) في السرِّ
ولا يعلمُ إلاَّ اللهُ
كيفَ ابتدأَ الطوفانُ في السرِّ !
وماذَا كانَ يحتدُّ سوَى لحمكِ في ( التنُّورِ )
حتَّى ( فارَ ) غضبانَ !!
وكانت طلقةٌ واحدةٌ تكفي لأَِنْ تختصرَ الموتَ ..
لماذَا انشقَّتِ الأرضُ إذَنْ أنهارَ جَمْرٍ
والسماواتُ غَدَتْ تُمطرُ فولاذاً ؟؟
هنيئاً للحضاراتِ التي ترسمُ بالصاروخِ
وجهَ العالمِ الحُرِّ !
هنيئاً هذهِ الحربُ على الجوهرِ في الإنسانِ !
صارَ الكفَنُ الأبيضُ زِيَّ الخَلقِ
في صيحتهِ الكُبرى على ثغرِ القوابِلْ !
هذهِ أرضُ ( جِنينَ ) ارتفعتْ للهِ
والموتُ تَمَشَّى عاطلاً من عمَلٍ ..
نَقَّبَ أشلاءَ الجنازاتِ
فألفَى كلَّ شلوٍ ضاحكاً يهزأُ بالطلقِ
فتَرْتَدُّ الرصاصاتُ إلى منجمِهَا خجلَى ..
هُنَا الوعدُ تَجلَّى
و ( جِنينُ ) ارتفعَتْ وارتفعَتْ ..
صارَتْ سماءً للعُلَى ثامنةً
والشهداءُ انتثرُوا شُهْباً على الأُفْقِ
وظلَّ الموتُ عاطِلْ