مذكرات طفلة فلسطينية - زياد آل الشيخ

أنا أحبُّ بابا
أنا أحبُّ ماما
ألعب في قلبي و احفظ الأناشيدْ
أنشودتي الحلوة في البيتْ
"عندك بيتٌ
عندي بيتْ"
عروستي ضاعت مع الحربْ
أحفظُ أسماء النجومْ
أرسم أشكال الغيومْ
هذي الغيوم كالخرافْ
وهذه الغيمة أرنبْ
أتعب قبل النوم أتعبْ
أحب أختي هي لا تتعب مثلي فهي نامتْ عند ربي
أنا أحبُّ أن أنامَ عند ربي و أبي يغضب مني
لو تكلمتُ عن الموتِ وعن أختي سميةْ
يقول لي: "عيبٌ عليكِ إن تكلمتِ بمن ليس هنا"
أختي هنا !
أمي تقول دائماً: "أختكِ في قلبي هنا"
أمي تحبُّنا جميعاً وهي تبكي عندما أطلبُ ألعابَ سميَّةْ
وهي التي تقولُ دائماً لنا: "لا تحرموا الأطفال من ألعابكم!"
ألعابُ أختي لم تزلْ جديدةً، ثيابُها نظيفةٌ معطرةْ
سريرُها بجانبي، أقلامها المبعثرةْ
غرفتنا بيضاءَ من صورتِها المشغولةِ الدورةْ
وصوتها: "عندك بيتٌ
عندي بيتْ"
في كلِّ بيتْ
سمعتُ مرة أبي يقول لي: "الأرض لنا!
وهذه القطة يا بنتي لنا!
وذلك السورُ على البيتِ لنا أيضاً فهل
تنسينَ من أنتِ وهل تنسينَ من نحن هنا!"
يقول إنَّ الأرضَ لي لكنه يغضب لو ألعب بالرملِ
ولو احفر أنفاقاً بها
يقول: "ازرعي بها شيئاً مفيداً لفلسطينْ"
سمعته يقول مرةً لأمي: "لا تخافي إنَّ ربي معنا"
سألت أمي بعدها مِمَّ تخافينْ
فجاوبتني: "إنني أخافُ أن يؤذوا سميةْ!"
دعوت ربي أمس أن نبقى بنفس البيتِ
قد ترجع في الليل سميةْ
قلتُ لأمي: "قد تعودْ
إن سكن البيتَ سوانا عندما ترجع قد
تحسبُ أنَّا قدْ تغيرنا و أصبحنا يهودْ
إن لم تجد ألعابها إنْ لم تجد أسماءنا مكتوبةً في العشبِ
أو إنْ لم تجد آثار تسبيحٍ وآثار سجودْ"
ابتسمتْ لي ثمَّ قالت اذهبي و ساعدي
أباك في النقلِ فلما عدت شفتُ الدمعَ
في الغرفة مسكوباً كزيتْ
رأيتُ أمي قبل أن نركب في رحلتنا
تحفر في تينتنا
سمعتُها تقول: "من قلبي إلى روح سميةْ
أترك في البيت لك الروح و أيامي الهنيَّة
إن عدت للبيت فلا تبكي فمشوارٌ قريب و نعودْ"
قلت لأمي "سنعود؟!"
قال أبي: "حتماً فيوماً ستعودْ
يوماً بلا شكٍّ تعودْ!"
أندلسيات
1
جئتُ يوماً فصار شهراً وعاما
كان حرباً فصار شعري سلاما
كنتُ طفلاً تلحَّف الليلَ حتى
قرأ الشعر للنَّدامى وناما
كنتُ مداً، فجئتَ أرضاً، وكنتَ
الشمسَ تحصي وتكشفُ الأياما
كنتَ موالاً...
لا يزال الخليجيُّ يغنيهِ في الحجاز مقاما
في يديكَ المصباحَ ترمي عمودَ النورِ
كالرمحِ إذ رميتَ الظلاما
ما أراك المودع اليوم لكنْ
قد أراني أودعُ الأحلاما
2
نخلةٌ أم مدينةٌ تحمل الحبَّ
وبستانٌ يزرعُ الأقلاما
جئتنا بالزهورِ و النورُ برقٌ
ومددتَ اليدين كأساً مداما
وملأتَ الدواةَ حبراً وصغتَ
الشعرَ لحناً. كما أردنا تماما
ودخلتَ القلوبَ فتحاً مبيناً
فسُقِينا مودةً أعواما
وكشفتَ السماءَ عنَّا غطاءً
فانطلقنا على يديك حماما
3
منذ عام سلَّمتني الأقلاما
بعد عامٍ حمَّلتني الأعلاما
فأضأتَ النيران لي من بلادٍ
لبلادٍ كنتَ فيها الإماما
و تقدَّمتني يدٌ في يدٍ
كنت صديقاً وكنتَ درعاً حساما
ولوائي عقدتَهُ بيميني
و قبضتُ المدادَ منك زِماما
كنتُ في الخلف و الأمام أمامي
فلماذا تركتَ خلفي الأماما؟
4
أيُّها الراحل الذي لا يبالي
أين ترسو به الليالي سلاما
حَكِّم الشوقَ إن أردت لذكرانا
كلاماً يردُّ فينا الكلاما
واجمع الأيامَ التي جمعتنا
واحمل الذكرى في يديك وساما
وتوشَّح بكلِّ شعر كتبنا
وتذكَّر مجالساً ومقاما
من خيولِ المساء سرجاً
ومن نور روابينا معطفاً ولثاما
خذ ليالي نجدٍ وغيم عسيرٍ
وعيون الأحساء و الدَّمَّاما
خيمةٌ في ظلالها خَبَّأتنا
وحديثٌ يسكِّن الآلاما
5
يا رحيلَ السواحل استبق ِ حيناً
لبكاء المرجان حينٌ ترامى
هكذا..
هكذا ترجلتَ ليلاً
لترشَّ النَّدى وتطوي الخياما
إنني و الظهران نبكي سوياً
ويداها تمد نبتَ الخزامى
أي أمرٍ رحلتَ عنَّا إليه
شاقكَ النيلُ أم مللتَ الكراما
يا أبا ياسر إلى أينَ تمضي
ولمن يا تُرى تركتَ اليتامى
صدفة
أتيْتيني على غفْلَة ْ
و كنتِ الطفلةَ الطفلة ْ
فكُنْتيني
دخلتِ القلبَ بالصُّدفة ْ
وكانت دمعتي غُرفَة ْ
ستُؤويني
أخذنا الحبَّ بالقوة ْ
أكان الشوقُ يا حُلوة ْ
سَيُنهيني
زرعتِ العشبَ في صدري
أكانَ العمرُ يا عمري
سَيَكْفيني
قتلتيني برمشيكِ
وقد قلتِ بعينيكِ
ستحييني
أشهداً ذُقْتُهُ خمراً
أدمعاً سالَ أم نهراً
من الطينِ
أذقتينيهِ أم ذقنا
أكأسٌ أنتِ أم سكنى
سكنتيني
أعينيكِ لي المرآةْ
سقتني الآهَ و الأوّاهْ
و تسْقيني
أتبقى رحلةَ الطيبِ
بأنفي رحلة الطيبِ
و تُبقيني
تركْتيني على الوردَةْ
لبعدٍ يشتكي بعدَهْ
ويشكوني
يمرُّ الوقتُ من عندي
من الصين إلى الهندِ
إلى الصينِ
من الخيمةِ للخيمةْ
تركتيني على الغيمةْ
تركتيني
إلى أين إلى أينَ
تركتِ القلب و العينَ
بلا لينِ
على دربٍ يعنّينا
سيُبكيك و تمشينا
و يبكيني
شاهدت جرحي واقفاً
في قلبي الشهدُ كم من جرة كسروا
وكم بقلبي رشاً من دمِّها سَكِروا
غنَّوا له صوتُهم ريحٌ فما عزفوا
لحناً يدندنُهُ في حُزْنِهِ وترُ
خَطُّوا له، حِبْرهمْ ماءٌ، فما نقشوا
شيئاً ليحفظَهُ في جذْعِهِ شجرُ
ولا أضاؤوا فوانيساً بساحتِهِ
سقوهُ أعذبَ ما يبكي به حجرُ
و قطَّعوا ما تبقَّى من سحابتهِ
و أشعلوا زيتَهُ من بعد أنْ ظهروا
ذاقوا وما ذقتُ إلا مرّ قافيةٍ
تحتَ اللسانِ وفي الفَودينِ تستعرُ
العابرونَ دمي مجْذافهم هدبي
المحرقون أغانيهم و قد عبروا
حِنَّاؤهم من دمي فنٌّ ومن عنبي
كحْلٌ ومن مقلتي يُسقون ما عصروا
على ليالٍ مضتْ من أيِّ نافذة
نظرتُ شوقاً رأيتُ القلب ينكسرُ
فلا وقفتُ على أطلال ذاكرةٍ
إلا تلألأ في أسْمالها أثرُ
ولا مررتُ بها إلا وفاح لها
شوقٌ ورفرفَ في أجْفانها سفرُ
وما نسجْتُ على أستارها لغةً
إلا و ثقَّب في أستارها النظرُ
بكيتُ لم تبقَ من عينيَّ زاويةٌ
إلا لها دمعةٌ في الركن تنتظرُ
ولا سرى بعدهم فكري براحلةٍ
إلا يُظَلِّلُهُ في سيره سهرُ
فإن تكسَّر كوبي كل سوسنةٍ
كوبٌ وكلُّ هوى من بعدهم خطرُ
غداً سأمحو التضاريسَ التي نزلوا
و أدفن الماءَ و البئرَ الذي حفروا
نوارسٌ تركتْ في شاطئي أثراً
لتَمحُهُ موجةٌ أو يُجِلِه مطرُ
و زهرةٌ نَشرتْ في الصيفِ مهجتَها
يأتي عليها شتاءٌ ثم تنتحرُ
و نسمةٌ أخطأت عنوانَ ساقيةٍ
لتلتقي دمعةً في الرمل تنتشرُ
أحلى الفراقِ فراقٌ لستَ تفهمُهُ
كالغيمِ يأتي ظلالاً ثم ينحدرُ