نفاد - محمد حسن علوان

أشعر أني الآن سأكتب آخر كلمة..
.
.
.
.
شيءٌ مثل نفاد الحكمة ساورني.. هذا الليلْ..
يفرغ جيبي من كل الكلمات العاجيّةِ..
ويجرّدني فقه الشعر.. وكُتَل القول.. الذهبية..
يسرقني هوناً مثل مصابيح الطرقاتِ إذا تأكلُ أقدامَ الشعراء..
يُفرغ من حلمي الأسماءَ الأولى،
ومشاعرَ لليوم البارد أكنزها،
وتماثيلَ أعوذ بها من يومٍ موعودْ..
أشعر أني أصبحتُ مليئاً بالأصغاءِ، ونافذتي أوسع من ثغر الله، وعقلي وادٍ من دودْ..
* * * * *
أشعر أني محفوفٌ حتى العظم بحالاتٍ مثل: القلق على أضواء السور، ومثل التفكير بلا حد في حزن الجارة..
أشعر أني مكترثٌ جداً بمكان الطير على الغصن.. ولا أعرف أين خلعتُ حذائي..!
أشعر أني أنفقتُ القلب، وقلباً آخر، في حمأٍ مسنون..
أشعر أني حانوتٌ من أوراق الغيرِ.. تحرّفني أزمانٌ وحروبٌ.. وأكاذيب كثيرة!
أشعر أني دربٌ معكوسُ النيّات، وكيسٌ مثقوبٌ تتساقط منه الحاجاتُ المختزلة!
تلك الحاجات الجائعة، العمياء، البيضاء، الموءودة!
أشعر أني، لا شيء ينافسني في تبذير الأيام.. وفي جمع طوابع بلدانٍ ما عادت موجودة!
أشعر أني بالغتُ كثيراً في الخيرْ... حتى أغضبتُ الله معاً.. والشيطان!
* * * * *
أشعر أني لا أعرف إلا الباب الخلفيّ لفرحي!
البابَ الممتد على رضوان أناسٍ لا أعرفهم، وعلى أخلاقٍ صارت من بعدُ.. سخيفة!
البابَ المفتوح على دعوات عجائز يرمين كلاماً.. يعجبني يومين.. ويذبل!
البابَ المتجهم حين يلقننا لغة الطَرَقَاتِ، وآداب الجرس المزعومة..
البابَ المقتول على عتبته كل نوايا الإنسان العادي، وكل شكاوى الذات البكماء، وكل الرغبات المسحوقة في عجل التاريخ سماءً.. بعد سماء..
ولهذا يحدثُ أحياناً أن نكنس أنفسنا من عتبات الأبواب ولا نشعر!
يحدث فعلاً..
ولهذا أشعرُ أني (رغباتٌ) ذرّتها الريحُ.. بدون مبرر!
* * * * *
أشعر أني أقطعتُ حياتي لإله إقطاعيٍّ..بعد إله!
إلهٌ يحصدني فرضاً فرضاً،
يخلع عني دفء الحيّ، ويملأ وجهي إيماءاتٍ لا أفهمها..
وإلهٌ.. ترْجَمَني قاموساً مسلوب الإيمان، ومنفيّ الصلوات..!
وإلهٌ يسقيني البحر، وآخر يقنعني أن العُريَ الفادح في منتصف العمر.. نزاهة!
وإلهٌ شاد المعبد والمذبح والقربان من الكلمات..
وإلهٌ آخر منذ ثلاثة أيام لم يرفع هاتفه المشغول، ولم يكتب للعبد.. رسالة!
أشعرُ أني أرقص في مسرح آلهةٍ رعناء، ولا أعرف كيف سأهرب من هذا التصفيقِ الدموي.. وأخرج..
* * * * *
أشعر أني الآن قديمٌ.. ومواربْ..
أدراجي يقدحها الغيب: رسائلَ للفقهاء بعلم اللعنات.. لينتشلوني..!
وذقني محلوقٌ منذ قرون.. لم ينبت..
هل هذا وجهٌ أم مشهد؟
أشعر أني منحوتة نحّاتٍ أكتعْ.. لا يملكُ أن يكملني من جهتين!
وأنا أحتاج كثيراً تلك الجهة الأخرى..
أحتاج إلى شمسٍ تمنحني الضوء بدون كلامٍ.. وسعير.. ووعيد..
مثلاً: كالنرويج..
أقبل خديها البيضاوين، ولا تحرقني شفتاي..
* * * * *
أشعر أني منهوبٌ حتى آخر جيبٍ في عمري!
أتناقص تدريجياً..
.. مثل خزينة بلدٍ فاسد
لا أفهم كيف أنا دوماً أفتح صنبور الأخلاق.. وأنساه!
مع كل صباحٍ أكتشفُ جفافاً آخر في جسدي..
وأقول: إذا جاء الليل ستنكشف العورات الفجّة..
ويجيء الليل ليثقبني ثقباً آخر.. حتى يبتزّ طعاماً للنجماتْ
* * * * *
أشعر أني هاجرتُ بعيداً يا أميالُ.. ولم أبرح جوعي..
غيرتُ قوانيني الخرقاء.. ولم.. يتغير.. أبداً..
.. هذا.. الظلمُ.. المحتومْ
من يلعق عني نصف طريق الكدح.. سأعطيه رصيفاً للتذكار!
من يسهر عني حزنين.. سأعطيه نهارْ!
من يمنحني طعماً آخر للحكمة..
أو حجماً أصغر للدنيا..
سأبوءُ له كالأبرارْ
* * * * *
أشعر أني الآن سأكتب آخر..
.
.
كلمة..
21 يونيو 2006
بورتلند