في المقهى - محمد حسن علوان

أيقظتِ شيئاً .. في سكونِ فؤادي
فإذا به بعد السكوتِ.. ينادي

بجوارِ طاولتي جلستِ.. وراقبتْ
عينايَ هذا الطائرَ المتهادي

أيُّ المواسمِ جئتِ فوقَ رياحِه
في رتمِ أيامي الرتيبِ العادي

شيءٌ على شفتيكِ راح يشدُّني
ويهزُّني.. لأفيقَ بعد رُقادِ

وتوغلتْ عينايَ فيكِ.. وسافرتْ
روحي بوجهٍ كالسحابةِ.. هادي

هذا الأسى في مقلتيكِ.. عرفتهُ
لم يستطعْ.. لم يستطعْ إبعادي!!

ويزيحُ عن شفتيْ الثلوجَ.. ويحتوي
مدناً من الأوجاعِ في أورادي

أترايَ ألمحُ بعضَ حزني فيهما؟
وسحابة من حيرتي وسهادي

أترايَ ألمحُ بعض ما يعتادُني
دوماً.. ويعصف مثل ليلةِ عادِ

أم أنني أصبحتُ أهذِي.. كلما
طالعتُ لوناً.. لاحَ فيهِ سوادي

والتائهنَ إذا أضاعوا عمرَهُمْ
نثروا السنينَ على قرىً وبلادِ

ألِفوا مقامَ الحزنِ في أضلاعهم
ورأوهُ في الإتهامِ والإنجادِ

***

لم تشعري بي!!.. لا أزالُ محدّقاً
في مقلتيكِ.. وأنتِ شِبْهُ جَمَادِ!!

أيّ النساءِ إذا غَزَتها نظرةٌ
ظلت بنفسِ هدوئِها المعتادِ؟!

لا والذي خَلقَ الدموعَ أنا أرى
جفناً لأدمعكِ البريئةِ صادِ

وأرى بوجهكِ مرفأً.. وحكايةً
وقصائداً.. ومدائناً.. وبوادِ

وأرى بقايا دمعةٍ .. أخفيتها
فتأرجحتْ في كبرياءٍ بادِ

يا بحةً في الصوتِ تنثرُ حيرتي
وتلمها.. كالعندليبِ الشادي

يا ليتني أدنو إليكِ.. لعلها
ترتدُّ مبصرةً عيونُ فؤادي

يا ليتني أشكو إليكِ .. ورُبما
تشفي العليلَ مصائبُ العوّادِ

***

مِنْ خلفِ هذا التلّ جئتُ مهاجراً
من عالمي.. مني.. ومن أحقادي!!

من أجل هذا اليأسِ.. جئتُ أنا هنا
في ركن مقهايَ السيط الهادي

إني استجرتُ بمقلتيكِ .. فأنقذي
قلباً ذليلَ القيدِ والأصفادِ

عيناكِ كوَّنتا حديثاً بيننا
يجري كدِجلةَ في ثرى بغدادِ

ماذا أقولُ؟!.. وفي عروقي صرخةٌ
قد جمدتها الريحُ في أورادي

أنا متعبٌ بقصيدةٍ في داخلي
لم تكتملْ!.. أنا متعبٌ بفؤادي

وبغربةٍ تمتدُّ مثل حضارةٍ
مجهولةِ التاريخِ.. والميلادِ

وبفكرةٍ ربّيتها.. أرسلتها
لتعانقَ المفقود من أبعادي

وظننتها تأتي ببعضِ كوامني
بمشاعري.. بطبيعتي.. بعنادي

لكنني أيقنتُ أنَّ حقيقتي
وهمٌ .. وأنّ الوهمَ كان مُرادي!!

ورأيتُ أحلامي التي أشعلتها
سيجارةً.. في تبْغِها أمجادي!!

أطفأتها فإذا طموحي خدعةٌ
وإذا بكل العمرِ .. كومُ رمادِ!!

وبلحظةٍ.. مزّقتُ كلَّ قصائدي!!
حتى يعودَ إلى يديّ قِيَادي

وجلستُ مِثلَ القاربِ الطافي إذا
صَفَعتهُ كفُّ السيلِ خلفَ الوادي

أبكي لمجدافي الذي أودَتْ به
وأعدُّ ما أبْقتْ من الأعوادِ

***

عذراً إذا كدّرتُ صَفوَكِ .. إنني
لولاكِ ما دُكتْ حصونُ فؤادي

قد جئتِ في الزمنِ الذي أحتاجُهُ
في موسمٍ قلّت به أعيادي

أنا متعبٌ من ذكرياتي.. أحتسي
في قهوتي قلقي وطعمَ سهادي

والعمرُ إلا بعضُهُ متسربلٌ
بالدمعِ بينَ الموتِ والميلادِ

ما أكثرَ الناسَ الذينَ رأيتهُمْ
وبداخلي.. يا كثرةَ الأضدادِ

لو تعلمين مشاعري كم نالها
ما تشتهيهِ خواطرُ الحسّادِ

لو تعلمينَ اليأسَ كيفَ امتصّني
كم تفتِكُ الآلام بالأكبادِ!

إن غالتِ الأرواحَ أحزانٌ فما
يخفيهِ هذا العمرُ للأجسادِ

لو تعلمينَ حرائقاً في داخلي
تمتدُّ مثل النبضِ في الأورادِ

لو تعلمينَ الليلَ كيف عبدتُه
زمناً.. وعدْتُ ألومُ كفرَ فؤادي

أنا قد هجرتُ عبادةَ الأوهامِ من
زمنٍ.. وتبتُ إلى العظيمِ الهادي

أنا ها هنا أجترُّ آلامي وما
في الذكرياتِ سوى ثيابِ حدادِ

آسى لأيامي التي أمضيتها
ما بين أصحاب مضوا.. وأعادي

لو أنني دوّنتها في دفتري
المحزون.. لو أني أسلتُ مدادي

لتركتُ من بعدي قصيدة متعبٍ
تكوي الحناجرَ ساعةَ الإنشادِ

***

قامتْ.. ولم تشعُرْ بعصفِ جوانحي
ولهيبِ أفكاري.. وقدْحِ زِنادي

وورائها ترَكتْ هشيمَ ملامحٍ
وخليطَ أكواب هنا.. وأيادي!

ومضتْ كأنسامِ الأصيلِ.. وراقبت
عينايَ هذا الطائرَ المتهادي