لكمْ منيَ الوُدُّ الذي ليسَ يَبرَحُ - بهاء الدين زهير

لكمْ منيَ الوُدُّ الذي ليسَ يَبرَحُ
وَلي فيكُمُ الشّوْقُ الشّديدُ المُبرِّحُ

وكمْ ليَ مِن كُتْبٍ وَرُسلٍ إلَيكُمُ
ولكِنّها عن لَوْعَتي ليسَ تُفصِحُ

وَفي النّفْسِ ما لا أستَطيعُ أبثّهُ
ولَستُ بهِ للكُتبِ وَالرّسلِ أسمَحُ

زعمتمْ بأني قد نقضتُ عهودكمْ
لقد كذبَ الواشي الذي يتنصحُ

وَإلاّ فَما أدري عسَى كنتُ ناسِياً
عسَى كنتُ سكراناً عسَى كنتُ أمزَحُ

خلقتُ وفياً لا أرى الغدرَ في الهوى
وذلكَ خُلْقٌ عَنهُ لا أتَزَحزَحُ

سَلوا النّاسَ غيري عن وَفائي بعهدكم
فإني أرى شكري لنفسي يقبحُ

أأحبابَنا حتى مَتى وَإلى مَتى
أُعرِّضُ بالشكوَى لكمْ وَأُصرّحُ

حياتي وصبري مذ هجرتم كلاهما
غريبٌ وَدَمعي للغريبَينِ يَشرَحُ

رعى اللهُ طيفاً منكمُ باتَ مؤنسي
فما ضرَّهُ إذ باتَ لوْ كانَ يُصْبِحُ

ولكِنْ أتَى لَيلاً وَعادَ بسُحرَة ٍ
درى أنّ ضوءَ الصبحِ إن لاحَ يفضحُ

وَلي رَشَأٌ ما فيهِ قَدْحٌ لقادِحٍ
سِوَى أنّهُ منْ خدّهِ النّارُ تَقدَحُ

فتنتُ بهِ حلواً مليحاً فحدثوا
بأعجبِ شيءٍ كيفَ يحلو ويملحُ

تبرأ من قتلي وعيني ترى دمي
على خدهِ من سيفِ جفنيهِ يسفحُ

وحسبيَ ذاكَ الخدّ لي منهُ شاهدٌ
ولكنْ أراهُ باللّواحِظِ يُجرَحُ

ويَبسِمُ عَنْ ثَغْرٍ يَقُولونَ إنّهُ
حبابٌ على صهباءَ بالمسكِ تنفحُ

وقد شهدَ المسواكُ عندي بطيبهِ
ولم أرَ عَدْلاً وَهوَ سكرانُ يَطفَحُ

ويا عاذلِي فيهِ جَوَابُكَ حاضِرٌ
ولكن سكوتي عن جوابكَ أصلحُ

إذا كُنتُ ما لي في كَلامِيَ رَاحَة ٌ
فإنّ بَقائي ساكِتاً ليَ أرْوَحُ

وأسمرَ أما قدهُ فهوَ أهيفٌ
رشيقٌ وأما وجههُ فهوَ أصبحُ

كأنّ الذي فيهِ منَ الحسنِ والضيا
تَداخَلَهُ زَهْوٌ بهِ فَهوَ يَمْرَحُ

كأنّ نسيمَ الروضِ هزّ قوامهُ
ليخجلَ غصنَ البانة ِ المتطوحُ

كأنّ المدامَ الصرفَ مالتْ بعطفهِ
كمَا مالَ في الأرْجوحة ِ المترَجِّحُ

كأنّيَ قَدْ أنشَدْتُهُ مَدْحَ يوسُفٍ
فأطْرَبَهُ حتى انثَنَى يَتَرَنّحُ

وَإنّ مَديحَ النّاصِرِ بنِ مُحَمّدٍ
ليَصبو إلَيهِ كلُّ قلبٍ وَيَجنَحُ

مديحاً ينيلُ المادحينَ جلالة ً
وَمَدْحاً بمَدْحٍ ثمّ يَرْبو وَيَمْنَحُ

ولَيسَ بمُحتاجٍ إلى مَدْحِ مادِحٍ
مكارِمُهُ تُثْني علَيْهِ وَتَمدَحُ

وكلُّ فصيحٍ ألكنٌ في مديحهِ
لأنّ لسانَ الجودِ بالمدحِ أفصحُ

وقد قاسَ قومٌ جودَ يمناهُ بالحيا
وقد غَلِطوا، يُمناهُ أسخَى وَأسمحُ

وغيثٌ سمعتُ الناسَ ينتجعونهُ
فأينَ يرى غيلانُ منهُ وصيدحُ

لئنْ كانَ يَختارُ انْتِجاعَ بَلالِهِ
فإنّ بَلالاً عينُه تَتَرَشّحُ

دعوا ذكرَ كعبٍ في السماحِ وحاتمٍ
فليسَ يعدّ اليومَ ذاكَ التسمحُ

وليسَ صعاليكُ العريبِ كيوسفٍ
تعالوا نباهِ الحقَّ والحقُّ أوضحُ

فما يوسفٌ يقري بنابٍ مسنة ٍ
ولا العرقُ مفصودٌ ولا الشاة ُ تذبحُ

ولكنّ سلطاني أقلُّ عبيدهِ
يَتيهُ على كِسرَى المُلوكِ وَيرْجَحُ

وَبَعضُ عَطاياهُ المَدائِنُ والقُرَى
فمن ذا الذي في ذلك البحرِ يَسبَحُ

فلوْ سئلَ الدنيا رآها حقيرة ً
وجادَ بهَا سِرّاً وَلا يَتَبَجّحُ

وَإنّ خَليجاً مِنْ أياديهِ للوَرَى
يرى كلُّ بحرٍ عندهُ يتضحضحُ

فقلْ لملوكِ الأرضِ ما تلحقونهُ
لقد أتعبَ الغادي الذي يتروحُ

كثيرُ حَيَاءِ الوَجْهِ يَقطُرُ ماؤهُ
على أنّهُ مِن بأسِهِ النّارُ تَلفَحُ

كذا الليثُ قد قالوا حييٌّ وإنهُ
لأجرأُ مَن يُلقَى جَنَاناً وَأوْقَحُ

مناقبُ قد أضحى بها الدهرُ حالياً
فها عطفهُ منها موشى موشحُ

من النّفَرِ الغُرّ الذينَ وُجوهُهُمْ
مَصابيحُ في الظّلماءِ بَل هيَ أصبَحُ

بهاليلُ أملاكٌ كأنّ أكفهمْ
بحارٌ بها الأرزاقُ للناسِ تسبحُ

فكم أشرقتْ منهم شموسٌ طوالعٌ
وكم هطلتْ منهم سحائبُ دلحُ

كذاكَ بَنو أيّوبَ ما زالَ مِنهُمُ
عظيمٌ مرجى أو كريمٌ ممدحُ

أُناسٌ هُمُ سَنّوا الطّريقَ إلى العُلا
وهم أعربوا عنها وقالوا فأفصحوا

ولم يتبعوا من جاءَ في الناسِ بعدهم
لقد بينوا للسالكينَ وأوضحوا

ليهنَ دمشقَ اليومَ صحتكَ التي
بها فرحتْ والمدنُ كالناسِ تفرحُ

فلا زهرَ إلاّ ضاحكٌ متعطفٌ
وَلا دَوْحَ إلاّ مائِسٌ مُتَرَنِّحُ

ولا غصنَ إلاّ وهوَ نشوانُ راقصٌ
ولا طيرَ إلاّ وهوَ فرحانُ يصدحُ

وقد أشرقتْ أقطارها فاغتدى لها
شعاعٌ لهُ فوقَ المجرة ِ مطرحُ

وشرَّفْتَ مَغناها فلوْ أمكَنَ الوَرَى
لَطَافُوا بأرْكانٍ لهَا وَتَمَسّحُوا

وواللهِ ما زالتْ دمشقُ مليحة ً
ولكنّها عندي بكَ اليوْمَ أملَحُ

عرضتُ على خيرِ الملوكِ بضاعتي
فألْفَيْتُ سُوقاً صَفقتي فيه تَرْبَحُ

وقد وثقتْ نفسي بأني عندهُ
سأزدادُ عزاً ما بقيتُ وأفلحُ

وَأنّ خْطوباً أشتَكيها ستَنْجَلي
وَأنّ أُموراً أبْتَغيها سَتَنجَحُ

وأنّ صلاحَ الدينِ ذا المجدِ والعلا
لما أفسدتْ مني الحوادثُ يصلحُ

يُشرّقُ غَيري أوْ يُغرّبُ إنّني
لدى يوسفٍ في أنعمٍ لستُ أبرحُ

أمولايَ سامحني فإنكَ لم تزلْ
تُسامِحُ بالذّنْبِ العَظيمِ وَتَسمَحُ

لكَ العُذْرُ ما للقَوْلِ نحوَكَ مُرْتَقًى
مقامكَ أعلى من مقالي وأرجحُ

فَما كُلّ لَفظٍ في خِطابِكَ يُرْتَضى
وَما كلّ مَعنًى في مَديحِكَ يَصْلُحُ

أتَتْكَ وَإنْ كانَتْ كَثيراً تأخّرَتْ
فإنكَ تعفو عنْ كثيرٍ وتصفحُ

وَهَبْ ليَ أُنْساً منكَ يُذهِبُ وَحشتي
ويَبسُطُ قَلباً ذا انقِباضٍ وَيَشرَحُ

وجدْ لي بالقربِ الذي قد عهدتهُ
وأرضى ببعضٍ منهُ إن كنتُ أصلحُ

وإني لديكَ اليومَ في ألفِ نعمة ٍ
ولكنْ عسى ذكري ببالكَ يسنحُ

لعمركَ كلُّ الناسِ لاشكّ ناطقٌ
وَلكِنَّ ذا يَلغُو وَهذا يُسبِّحُ

وقد يحسنُ الناسُ الكلامَ وإنما
لسامعهِ فيهِ الشرابُ المفرحُ

نسيبٌ كما رقَّ النسيمُ من الصبا
وَغازَلَهُ زَهرُ الرّياضِ المُفَتّحُ

ومدحٌ يكونُ الدهرُ بعضَ رواتهِ
فيمسي ويضحي وهوَ يسري ويسرحُ