غربة روح - يحيى توفيق حسن

وحْدِي وهذا الدُّجَى.. ضَاقَتْ بِيَ الدَّارُ
غريبُ رُوْحٍ ذَوَى.. أقْصَتْهُ أسْفارُ

ظمآن.. لا ماءَ يروي غُلَّتِي.. وَفَمِي
قد جفَّ.. والعَزْمُ في عَيْنيّ إصرَارُ

ورُبَّ ظامٍ صَدٍ والمَاءُ في فَمِهِ
كأنَّما صُبَّ في أحشائِهِ.. نَارُ

وكَمْ شَجٍ ضاحِكٍ والحُزْنُ يطحَنُهُ
يَبْدُو خليّاً.. وفي جَنْبَيْهِ إعْصَارُ

والذُّلُّ للحُرِّ جُرْحٌ لا دَواءَ لَهُ
والعَيْشُ في الذُّلِّ إنْ سَوَّغْتهُ عَارُ

حيْرانَ تَجْمَعُنِي والهَمَّ أفكَارٌ
واللَّيْلُ حَولي وملءُ القَلْبِ أكْدارُ

أخْفِي وأكْتُمُ و الآلامُ تسحقُنِي
كأنَّما دُقَّ في جَنْبَيَّ مِسْمَارُ

أرنُو إلى مَا مَضَى و العُمْرُ يسلبُهُ
كَرُّ اللَّيالي وايسَارٌ وإعْسارُ

ليْتَ الزَّمانَ الّذي بالبُعْدِ فَرَّقنا
يُدْنِي ويُرجِعُ مَنْ شَطَّتْ بِهِ الدَّارُ

أكُلَّمَا قَرَّبتْ مَا بَيْنَنَا سُبُلٌ
عادتْ تُفرِّقُنا في الأرْضِ أقْدَارُ

جُرْحِي طويلٌ وقلبي مُثْْقلٌ أبداً
يا أيُّها القلبُ كَمْ أشْجَتْكَ أوْزَارُ

لا الحُزْنُ يَبْقى ولا الأفْرَاحُ دائمَةٌ
تَبْلى المَشَاعِرُ.. والآمالُ تَنْهَارُ

يَشْقَى ويَأْرَقُ مَنْ أعْيَتْهُ أوْطَارُ
والرِّزْقُ والجَدُّ.. إقْبالٌ وإدْبَارُ

كَمْ ضَاقَ بالفَقْرِ أبْرارٌ وإنْ صَبَرُوا
وكَمْ تقاتلَ.. عند المالِ.. أصْهارُ

كأنَّهم أذْؤُبٌ في قفْرةٍ سَغِبُوا
بَدَى لَهُم بعد طولِ الجُوُعِ أعْيَارُ

هبُّوا إليها وفي أعُرَاقِهِمْ نَهَمٌ
كالنَّار يدفعُهُمْ.. فالجُوْعُ جَبَّارُ

وهَكَذا النَّاسُ حُبُّ المالِ أفْقَدهُمْ
حُلْوَ الخِصَالِ.. فَمَغْدُورٌ وغَدَّارُ

يبدون كالعُمْيِ.. لكن ليس ثَمَّ عَمَى
وإنَّما عَمِيَتْ في الحقِّ أبْصارُ

جارُوا على بَعْضِهِم لا دِيْنَ يردعُهُمْ
وغرَّهُم جَشَعٌ في النَّفْسِ أمَّارُ

عاشُوا وماتُوا.. ضَحَايا الحِرْصِ وانْقَرَضُوا
لمْ يُجْدِهِمْ كلبٌ أو يُغْنِ إحْضَارُ

وبيْنَ هذا الورى حُرٌّ أحَاط بِهِ
رَيْبُ الزَّمانِ.. على الإرْزَاءِ صَبَّارُ

يَنُوءُ لا يشتكِي والنَّفْسُ قَانِعَةٌ
وفي أسارِيْرِهِ.. للطُّهْرِ أنْوَارُ

لّمْ يَنْسَ في غُرْبَهِ الأوْجَاعِ مَبْدَأهُ
لا ذَلَّهُ الفَقْرُ أوْ أطْفَاهُ إكْثَارُ

وبين أعْمَاقِهِ للنَّاسِ قَاطِبَةً
حُبٌّ يَفِيْضُ وإنْ عَنَّوْهُ أوْ جَارُوا

يَمْضِي دَؤُوْباً فلا حِرْصٌ ولا كَسَلٌ
يُعَلِّلُ النَّفْسَ فالأرْزَاقُ أقْدَارُ

ما أتْفَهَ العُمْرَ لو عِشْنَا نُبَدِّدُهُ
كَمَا يُبَدِّدُ حُرَّ المَالِ أغْرَارُ

أكْلٌ ونَوْمٌ بِلا فِكْرٍ ولا هَدَف
كأنَّنا في بِقَاعِ الأرْضِ أبْقَارُ

فالعَيْشُ مُتْعَتُهُ فِيْمَا نُكابِدُهُ
عُسْرٌ فَيُسْرٌ.. وأفْرَاحٌ فَأكْدَارُ

والفِكْرُ كَالحُبِّ أحْلَى ما نُزَاوِلُهُ
لولاهُ لَمْ تَحْلُ آمالٌ وأعْمَارُ

والنَّاسُ في رِحْلَةِ الأيَّامِ أوعيَةً
للخَيْرِ والشَّرِّ والإنْسَانُ يَخْتَارُ