نخْبٌ على شَرفِ القَرْدَعي* - عبد الرحمن فخري

(حَرك أولى)**
وأرفَعُكَ يا هذا الجَسَدُ،
إلى مستواكْ
أسْمعُ لكَ نْبضاً كالنَّنبيذْ
وصَهيلاً لا تُطِلقُهُ سوى الأَبْواقْ
وأرى، فيما يرى الصَّاحي:
حَرائقَ تترنَّحُ بها الكوؤسْ
وقروناً سابحَةً في خْيطِ دَمْ،
تعنو القَبيلةُ للأوْعالْ
ولأدْغالٍ، تقُومُ بينَ عينِ الشَّمسِ
وعيني
هذا التِّبْرُ من هذا الجَسَدْ
هذا الشِّبْلُ من ذاكَ الأسَدْ
وتنْفَرِجُ، عن قبضتي، الدّائرةْ
ــ2ــ
ــ ألا ترفعُ الأثقالَ مِثْلي، أيُّها الظلْ؟
ــ نعَمْ!
حينَ تتقَّوسُ الظَّهيرةُ،
ويخرجُ القَلْبُ إلى قارعَةِ الطَّريقْ..
على شَفْرةِ اللَّحظةِ، أقفْ
كمنتَصَف النَّهارْ
حينَ أحمَلُ العبءَ عن الضَّميرْ
وأمسَحُ خَطوي من تُرابِ النَّاسْ
ويومَ تُغْلَقُ وجوهْ
أنفتحُ..
كما يخلو إلى نَفْسهِ كِتابْ!!
ــ3ــ
زادي في خَيْمَةِ الرُّوحِ،
من هذا الفراغْ
أذْرَعُهُ إصْبعاً حتى السَّدرةِ الأخيرهْ
أحسبُهُ بمربَّعاتٍ من دَمي
وأغسلُ الماءْ
تحُطُّ أناملُ، تتدلَّى من بين الأشجار،
قهوةً أمامي
أشربُها،
وأعافُ الزَّادْ!
ــ4ــ
لي جَسَدٌ كمْ أوْرقَ بالتَّعبْ
كمنْ تملَّحَ بالأشياءْ
أقدامٌ حَفِيتْ وراءها الظلالْ
ساعدٌ هو السَّيفُ الأبْترْ
وَجْهٌ أغبرْ
ولهاثٌ تسْتعيرهُ عندَ الحاجةِ، الرِّيحْ
لي بابٌ لا يخرجُ منهُ الطّارقُ،
إلاّ إليهْ
مع المساءْ
أفصِّلُ قمصاناً ملوَّنةً للأحلامْ
وقواربِ ورَقيَّةً يرْكُبها الأطْفالُ،
عنْدَ الفَجْرْ
خناجرَ من سُلالة الماءْ
أقلاماً كأنَّها الَمكاحِلْ
وأقماراً كالدَّنانيرْ...
أُعلِّقُ جِسْراً بينَ الوَهْمِ والعَزْمْ
ثمَّ أقطَعُ الحَبْلْ!!
ــ5ــ
ها أنا أرى، فيما يرى الصَّاحي:
قوافلَ من أشباحٍ تسُدُّ الأفُقْ؛ رمْلاً أبيضَ كثوْبٍ
الأبَدْ؛ دواليبَ نار تدورُــ بالوعْد والوعيدْ؛ ثماراً
شاخصَةً كعيونِ المَوْتْ؛ أقداماً مُعَفَّرةً بترابِ الكَهْفْ؛
وجوهاً أليفةً لَيس لها عناوينْ؛ أجنحةً رهيبةً لا
تُصفِّقُ في الهواء؛ أشجاراً في النَّفْسِ لا تقْرعُ
الأجراسْ.
أدخُلُ على سيفي!
أتحسَّسُ أنْفَه السَّبَئيْ
مَقْبضِاً لهُ ككفِّ سَُليمانْ
ونَصْلاً فاصلاً بين الضُحى والظهيرهْ
أنْيمُهُ في مَكانهِ
(أعلى قليلاً من القلب)
أجْترَحُ للصَّلاة، في الفلاةْ!!
ــ6ــ
هذا الهواءُ طافحٌ ومالحٌ،
كأنًّه دمي
أُبَلِّلُ صوتي في أولِ بئرْ
لأجفِّفَ صُورَتي
ما الذي يَبْقى من جَمْعٍ وطَرْحٍ لي،
سوايْ
إنسانٌ في وزْنِ الرِّيشةِ،
نعَمْ!
في ثِقَل الرَّصاصِ،
نعَمْ!
يرْكَبُ الفُرْصَةَ،
ذُهوباً وجَيْئَةً
بينَ الوَهْمِ والعَزْمِ
نَعَمْ!
لكنَّه لا يخْلطُ بين القَدَمِ والطريقْ
يتجوَّلُ، كغيرهِ في صحْنِ الدَّارْ
ويحْلُمُ مثْلَ النَّاس،
بالخُبْزِ والعِزّ
وبقنْديلٍ أخْضَرَ،
يُعلَّقُ بين العيونْ!
وها أنا أنهَبُ هذه البَراري
أتناسخُ ما بين ظَنٍّ وظِلْ
أقارعُ الشَّوقَ بالشَّوقِ،
لأُحْرجَ المسافَةْ!
أُعلِّقُ على المحَكِّ،
صُورتي وصوْتي
وإننّي لأعرفُ متى تَلْهثُ الطَّريقْ
أعَرفُ متى يَنُعَسُ الصَّدى
وأعَرفُ متى أبْدأُ الغِناءْ!
ــ7ــ
ــ القَرْدَعي...
ــ مَنْ؟
ــ القردعي وقْتي ألـ ...
ــ إنسانٌ لا يعْرفُ الأمَانْ
وأمينٌ على الزَّمانْ
ــ وما عندَكْ؟
ــ (( ... وقتي الحاضرْ قد أعْيانيْ
وأعيا أهْلَ الأفكارْ ذي تمحِنْ وممحُونَهْ))
.......
حامضٌ هذا الهواء الذي أتنفَّسْ
كأنَّهُ نفْثُ الطواحينْ
وَوَعْرٌ قفرٌ هذا المكَانْ
لو عرف الأجدادُ منَّا الشَّواغلْ
لعالَجَتنا سيوفُهُمْ، قَبْلَ التعاويذْ
وشَرِسٌ هذا الزَّمانُ/
شَرسْ
أهلُهُ من عاجْ،
وشهْواتُهُمْ من حَجَرْ
وأنا رَجُلُ السَّاعةْ
أُقايضُ الزَّمنَ، آهَةً بآههْ
فمالي،وضيق الوقت في هذا الزِّحامْ
مالي، وصرير الأسنانَ على الموائدْ
مالي ولكُمْ
أعيتني الحيْلةُ معكُمْ
مالي ولكُمْ!!
**
ــ أهو فِكْرةٌ أم كُرَةٌ
هذا الوقْتْ؟!
نَلوكُهُ ــ يلفظُنا
نلفظهُ ــ لا نكونْ
ويبقى وحْدَهْ الشَّاهدَ والشَّهيدْ!
وقيلَ هو التَّوازنُ/التَّنازلُ/التَّناغُمُ/ التَّلاحُمُ ..
وقيلَ هو التَّهيُّؤْ(1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ((التَّهيؤ هو الكلُّ في الكل)) أوفيد.
**
يا قردعيْ
صَمْغٌ في إصبعي يلتقطُ الأشْياءْ
لكنّ شيئاً في الأشياءِ يخْذلُ إصْبعي
هل تعرفْ .. إبنُ مَنْ؟!
تتحَسَّسُ الشَّجَرةُ أعضاءها
حين يجزرُ البحرْ
تَدفِنُ الصُّخورُ رؤوسَها
حين النَّهرُ يفيضْ ...
تتستَّرُ النّساءُ وراء السِّيقان؛
قبْلَ الوجوهْ
وبعد مناورةٍ قصيرةْ
تتصلَّعُ روؤسُ الرِّجالْ.
هذا بدْرٌ طالعٌ بجَفْنْ
وتلكَ شمسٌ عجوزٌ تمضغُ الشِّدْقيْن
هذا حيوانٌ برأس الحكْمةْ
وذا إنسانٌ بقَرْنِ الشَّهَواتْ
هذا أبيضُ من أسودْ
وهذا أسودٌ من أبيضْ
وأنا يتيمٌ .. كالسُّؤالْ!
**
يا قردعي
كتابُ وَجْهكَ،يملأُ الكَفْ
هذا قَصْرٌ فَوقَ قَبْرْ
هذا ذَيْلٌ يتقدَّمُ الخيْلْ
هذا زمَنٌ بلا زَمَنْ
هذا وطنٌ بلا وطَنْ
هذا أنا
وهذا أنتْ
ونحْنُ في حَيْصَ بيْصْ
نحنُ في حَيْصَ بَيْصْ!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*شاعر شعبي متميِّز، وبطل وطني قارع الإمامةَ والانجليز في اليمن.
يقال إنه من فَرْط شجاعته واجه نِمراً ــ مرةً ــ فجُدعَ أنْفُهْ.
**حركة أولى ــ من مشروع شعري. َ