مسافرة بلا مهمة - عبدالله البردوني

يا رؤى الليل … يا عيون الظهيرة
هل رأيتينّ موطني والعشيرة ؟

هل رأيتينّ يحصبا أو عسيرا ؟
كان عندي هناك أهل وجيره

ودوال تشقرّ فيها اللّيالي
ويمدّ الضّحى عليها سريره

ورواب عيونهنّ شموس
وعليهنّ كلّ نجم ضفيره

وسفوح تهمي ثغاه وحبا
وحقول تروي نبوغ الحظيره

وبيوت ينسى الضيوف لديها
قلق الدار … وانتظار المديره

***

يا رؤى يا نجوم .. أين بلادي ؟
لي بلاد كانت بشبه الجزيره

أخيّروا أنها تجلّت عروسا
وامتطت هدهدا ، وطارت أسيره

وإلى أين يا نجوم ..؟ فتومي
ما عرفنا ـ يا أخت .. بدء المسيره

من أنا يا مدى ..؟ وأنكر صوتي
ويعبّ السّفار وجه السفيره

من أشاروا علّي كانوا غباء
ليتهم موضعي وكنت المشيره

كيف أختار .. كيف ؟ ليس أمامي
غير درب ، فليس في الأمر خيره

رحلت مثلما يحثّ سراه
موكب الريح في الليالي المطيره

وارتدى (الفار) ناهديها وأنست
هجرة النحنى خطاها الأخيره

***

وروّزا : أشأمت على غير قصد
ثمّ أمست على (دمشق) أميره

قلعتني ـ يا شامـ ريح .. وريح
زرعتني هنا .. كروما عصيره

وبرعمي نزلت غير مكاني
مثلما تلتقي العظام النّثيره

***

وبلا موسم تنامت وحيّت
بالرياحين والكؤوس النضيره

(وسقت من أتى البريص إليها
بردى .. خمرة ، ونعمى وفيره)

وعلت جبهة (الحورنق) تاجا
يا (سنمّار) أيّ مثيره ؟!

وهمت كالنّجوم سعدا ونحسا
وعطايا وحشيه ومجيره

(أنت كاللّيل مدركي من أمامي
وورائي .. كل النواحي ضريرة)

***

وحكوا : أنها ثياب سواها
جمّلتها … وأنها مستعيره

فرأوّها وصيفة عند (روما)
ورأوها في باب (كسرى) خفيره

وبعيرا لبنت (باذان) حينا
وأوانا … تحت (النجاشي) بعيره

***

عندما أحرقت (بنجران) غزوا
كان ينوي .. صارت رماد الجزيره

أطفأت بالثقاب مدّ جحيم
أتراها ملومة أم عذيره ..؟

فتهاوت حصّى وطارت عيونا
هربت من وجوهها مستجيره

وإلى أين ثانيا يا منافي
والإجابات كالسؤال مريره؟

نزلت (يثربا) هشيما فكانت
بالعناقيد والرفيف بشيره

فتناغى النخيل من أين جاءت
هذه الكرمة العجوز النكيره ؟

جئت يا عمّ من جذوري أرجيّ
تربة من رماد حزني قريره

***

وتجلّت في ذلك القفر دورا
وقطوفا تومي بأيد منيره

ونخيلا من السّيوف المواضي
وسيوفا من القوافي الجهيره

وارتمت في (حرى) طريقا وكهفا
ثمّ أضحت منذورة ونذيره

ومصلّى ، وخندقا ، وحصونا
ونبيا ، وسورة مستطيره

***

وليال مضت وجاءت ليال
وانقضت عسرة وجاءت عسيره

فانتضت في يد (السقيفة) (سعدا)
أكبر القوم … للأمور الكبيره

***

يا قريش اذكري نمتنا جميعا
صحبة سمحة وقربى أثيره

فلك السبق والجبين المحلّى
وأنا الجبهة الشموخ النصيره

أنت أمّارة … أنا ـ ثم قالوا :
سكتت قبل أن تقول ـ وزيره

دهشة البدء ضيّعت من خطاها
أولّ الدرب وهي حيرى حسيره

وجهها غاص في غبار المرايا
واسمها ضاع في الأماسي الغفيره

أين ((سعد)) قالوا : رماه عشاء
مارد من (( قبا)) يسمى ((بجيره))

وحكوا : أنها استعارت وجوها
خبأت تحتها الوجوه الكسيره

***

وإلى أين ثالثا ..؟ هل لسيري
وانثنائي مهمة بي جديره ؟

أصبح الصارم اليماني بكفّي
((مرودا)) في يدي فتاة غريره

وطغت ردّة فعادت نبيا
ونخيلا من السيوف الشهيره

***

وإلى أين رابعا ..؟ لقتال
جنّحت خيله وشبّت نفيره

من رآني خضت الفتوحات لكن
عدت منها إحدى السبايا الطريره

***

وإلى أين خامسا … يا قوافي؟
هاجر الحبّ والروابي الحضيره

فأتت ثانيا ((دمشق)) غراما
قمريّ الجبين ، باكي السريره

***

قصر ((أم البنين )) هذا ، عليه
ـ حسيما أخيرت ـ سمات كثيره

جرّبت أعسر الفتوح خيولي
فلأجرب هذي الفتوح اليسيره

لم أجد (( روضة)) ، فأدركت أزهى،
لعبة ، حلوة … ولكن خطيره

وعلى موعد رقت في ثوان
كتّف القصر بالهوى مستنيره

فتن فوق ما يظنّ التمنّي ،
غرفة فوق وصفها بالوثيره

لحظة والتوى السرير ضريحا
خشيا يموت … يطوي زفيره

إيه (( وضاح)) دونك البئر فانزل
قطعة دوان وصفها بالحقيره

ولهت ((ديد مونة)) في علاها
((وعطيل)) الهوى صريع الحفيره

هكذا أخبروا … لأن بلادي
خنجر الآخرين وهي العقيره

***

ما الذي جدّ ؟ أعول الثأر حتى
ليس يدري قبيله ودبيره

فارتقى ((هاشم)) و((مروان)) ولى
وهي ملغية الحساب … هجيره

من أنا ..؟ وانجلت لها من بعيد
لوز ((همدان)) كالنجوم الصغيره

ذكرت أم موطنا كان فيها
نسيت بدأه … وتنسى مصيره

فانثنت ((هاديا)) وقالت ترابي
ـ يا كنوز الرشيد ـ أغلى ذخيره

***

حقبة … والتوت ربى من أفاع
غادرات وهي الضحايا الغديره

توّجت … أسقطت على غيري هدّي
وأنتقت دون رؤية أو بصيره

فانتهت فاطميّة هي (( أروى))
ظاهرا … خلفه سجل وسيره

وتسمت ((بالقرمطي)) ولكن
أنقضها الممارسات القديره

فنفت وادّعت … كما شاء داع
لبست وجهها … وأخفت ضميره

وأسرّت قدسا وأبدت شعارا
خلفه ـ لو علمت ـ ألف شعيره

واستحرّت خلف ((النجاحي)) وأدمى
في رباها خيوله وحميره

***

ثمّ صارت ((مهديّة)) ((ورسولا))
نزلت واديا أضاعت شفيره

فأقامت في كلّ صقع إماما
هيأت نعشه وحاكت حريره

وتساقت دما وشوقا إليه
وهي أظما إلى المياه النّميره

***

من أتى ..؟ عاصف من الترك طاغ
فلأمزق حلوقه وهديره

إنّه يقذف السّعير المدوّي
فلأردد إلى حشاه سعيره

وأعدّت له القبور إلى أن
دفنت عهده أجدّت نظيره

***

وتراخى عهد عثير اللّيالي
وارتخت تحت ركبتيه عثيره

وبلا يقظة أفاقت ومدّت
(حزيزا) شعلة إلى (ضبر خيره)

***

وهناك انطفت وأطفت وقالوا :
خبزت للخلود أشهى فطيره

وحكوا : أنها أرادت … ولكن
جيدها المنحنمى قد اعتاد نيره

وطوت أربعا وعشرا ، مناها
مسرعات لكن خطاها قصيره

***

ربّما تخدع البروق عيوني
ربّما تحتها غيوث غزيره

أيّ شيء أريد ؟ ما عدت أغفو
أقلق العصر مرقدي وشخيره

***

هنا أنهت الإمامات ، هبت
من أساها تقود أبهى مسيره

هلّ (أيلول) مولدا وريعا
لم تزل تحمل الفصول عبيره

وقلاعا تثني المغيرين صرعى
وتلالا مدجّجات مغيره

***

ثم ماذا ؟ أسمت (سعيدا ) (نبيلا)
ودعت (شعلة) (هدى) أو (سميره)

غيّرت شعر جلدها وهي لمّا
تتغير ولم تغير وتيره

فرّة واجتلت قناعا يحلّي
جبهات إلى القفى مستديره

أصبحت أطوع المطايا ولكن
بالتواء الدروب ليست خبيره

***

فلأسافر كعادتي ، كلّ قفر
ذبت في نبته سكنت صفيره

ورمادي خلفي يعدّ رجوعي
يعجن الريح باحثا عن خميره

***

رحل النبع من جذوري فهيّا
يا هشيم الغصون نتبع خريره

وإلى أين ـ يا منافي ـ أخيرا …؟
وتشظّت في كلّ منفى أجيره

هكذا ما جرى لأنّ بلادي
ثروة الآخرين ، وهي الفقيره