صوت المتنبي - علي أحمد باكثير

من الملأ العلوي من عالم الخلدِ
أهل عليكم بالتحيات والحمد

تقحمتُ حُجب الغيب حتى أتيتكم
لأجزيكم عن بعض إحسانكم عندي

قطعتُ حدود (الأين) في متطاولٍ
من اللوح يفنى البعد فيه من البعد

كأن الفضاء اللانهائي سائرٌ
على كرةٍ لا حد فيها سوى حدي

إذا ما ركضت السير في فلواته
تشابه ما قبلي عليّ وما بعدي

إلى أن تجاوزت النجوم جواذباً
إليهن عطفي غير أن لسن من قصدي

يناشدني - والنور ثمّ - لسانها
لأنشدها شعري وأصفيها ودي

ولو لم تكن (مصرٌ) و(جلّق) الهوى
و(بغداد) لم أبخل عليها بما عندي

معانٍ قضى فيها الشباب مآربي
وسلّت بها كبرى العزائم إفرندي

وأمليتُ فيها الدهر غرّ قصائدي
فغنى بها الأجيال في السهل والنجد

******
******

قطعتُ حدود (الأين) حتى أتيتكم
فمن (لمتى) ما بيننا قام كالسد

أجل، ألف عامٍ حال بيني وبينكم
فلولا سبقتم أو تأخر بي عهدي

سعدتُ بلقياكم وفزتم برؤيتي
لو أن يد المقدار ألغته في العدّ

ألا فتزحزح يا زمان لشاعرٍ
يريد فلا تقوى الجبال على صدي

أغرّك أنّ الأرض قد شربت دمي؟
وأنّ عيون الشهب قد شهدت لحدي؟

رويدك قد خلدتُ في الشعر محضه
ولم يبق منه للتراب سوى الدُردي

فها هو في الأجيال ينساب صافياً
إلى ابنٍ .. إلى ابنٍ .. من أبيه .. من الجد

يزيد على الأيام كالخمر سورةً
لو أن حُميا الخمر تهدي كما يهدي

أنا الخالد الساري بأعصاب شعبه
وما شعبه بالنزر أو ضرِع الخدّ

******
******

بني مصر أنفاس الخلود عليكم
ونشر الخزامى والرياحين والورد

سبقتم إلى تكريم ذكراي غيركم
وقدماً سبقتم للمكارم والمجد

رأيت (بلاد الضاد) عقداً منظماً
ولكن (مصراً) فيه واسطة العقد

قضيت لمصر بالإمامة بينها
وهل لقضاء شئته أنا من ردّ؟

ومن غيركم أهدى إلى (الضاد) شاعراً
كشوقي ومنطيقاً كجباركم سعدِ؟

أحبهما لا بل أقدس فيهما
مشابه من عزمي وأصداء من وجدي

أعدتم إلى (الفصحى) الحياة فزحزحت
بأيديكم كابوس تُبّت والصُغدِ

هي الضاد لن يذوي على الدهر عودها
وقد خصها (الذكر) المقدسُ بالخلدِ

ستبدأ من حيث انتهت سائر اللغى
خطاها إلى حدّ يجل عن الحدّ

ولا تعتبوها فهي بعد صغيرةٌ
ولم يتنفس صدرها بعد عن نهدِ

علىأنها بالرغم من صغر سنها
لناعسة الجفنين مياسة القدِ

يكاد يصيح الحب بين شفاهها
"أنا الحب ما أخفيه فوق الذي أبدي"

******
******

تمنٍ يلذ المستهام بمثله"
" وإن كان لا يغني فتيلاً ولا يجدي

وغيظٌ على الأيام كالنار في الحشا"
" ولكنه غيظ الأسير على القِدّ

فلو عشتُ في هذا الزمان وأهله
لغيرت من نهجي وضاعفتُ من جهدي

وكنتُ تنكبتُ الملوك ومدحها
فليسوا بأكفائي وإن نالهم حمدي

وأتعس خلق الله من زاد همه"
" وقصّر عما تشتهي النفس في الوُجدِ

******
******

يقول أناسٌ إنني قد هجوتكم
فإما أرادوا الشرّ أو جهلوا قصدي

ولم أهجُ إلا حالةً غاظني بها
وقوف بني الأحرار بين يدي عبدِ

ولستُ أبالي مادحاً لي وهاجياً
فقد رويت نفسي من الصيت والمجدِ

ولي منهما ما لم ينله مملكٌ
ولا شاعرٌ قبلي ولا شاعرٌ بعدي

ولكنني أصبحتُ رمزاً لمجدكم
يضمكم روضي ويجمعكم وِردي

فمن نالني بالسوء نالكم به
لذاك، ويعوي ضدكم من عوى ضدي

أبى الله إلا أن مجدي مجدكم
وإن رغم الشاني ومجدكم مجدي

(أبوكم أبي يوم التنفاخر (يعربٌ
وجدكم (فرعون) اضحى بكم جدي

تألّه و(التاريخ) طفلٌ وملكه
تبسّمُ ذاك الطفل نوغي في المهد

تكلل بالريحان هامات ضيفه
وتنضح أبهاء الندام بما وردِ

وقد أعلنت فيها المجامر وجدها
فصعّدن أنفاساً من العود والندّ

تقوم عليهم في شفوفٍ رقيقةٍ
جوارٍ كمثل اللولوء النثر والنضدِ

يطفن عليهم بابنة الكرم حرّةٍ
وبالنُقلِ بعد اللحم والزُبد والشهدِ

فلا غرو في دعوى النبّوةِ مثلُه
وليس له فوق البسيطة من ندّ

ويعجبني الجبار إذ هو قوةٌ
يهيم بها قلبي وأعبدها جُهدي

كذا فلتكن فتيان يعرب إن ترد
حياةً لها ما بين أعدائها اللُدّ

حرام عليكم أن يقوموا وتقعدوا
وأن تهزلوا والقوم ماضون في الجدّ

كثيرٌ عليهم بعدُ أن تقفوهم
بني اللؤمِ منكم موقف الندّ للندّ

فكيف بأن يعلوا عليكم ويضربوا
على العُرب دون العزّ سداً على سدّ

******
*******

رفعتم شباب النيل أمس لواءها
فنفستمُ كربي وبرّدتمُ وجدي

وثرتم على الحامي العتيد وصحتمُ
"نعيش كراماً أو نُغيّب في اللحدِ"

بنفسي دماءٌ أهرقت في جهادكم
( تحن إلى أسلافها قبل في (أحد

جريرتها أن كلفت حمل قيدها
وما خلقت إلا قضاء على القيدِ

أضاء سناها (بالشآم) فروّعت
عِداها وردتها إلى خطةٍ قصدِ

أرى الحق في الدنيا يُردّ لقاهرٍ
ولم أره يوماً يُردّ لمستجدِ

فإن لم تُنلكم نَصف قومٍ مودةً"
"أنال القنا والخوف خيرٌ من الودّ

ولن تبلغ الأعداءُ من مصر مطمعاً
وقد زأرت فيها اللبوءُ مع الأسدِ

******
******

تناهت سلالاتٌ الجبابرة الألى
بنو هيكل الدنيا إلى هيكل الفردِ

تقوم عليه أمةٌ عربيةٌ
رسالتها هدي الشعوب إلى الرشدِ

على كاهل الدنيا استقلت بموطنٍ
من (المغرب الأقصى) إلى (الشطّ) ممتدِ

إذا هتفت (مصر) بلحن جهادها
(تعالى صداه في (العراق) وفي (نجد

وخفّ له في (حضرموتَ) مهللٌ
وجلجل في آفاق (تونس) كالرّعدِ

رأيتُ (بلاد الضادِ) عقداً منظماً
ولكنّ (مصراً) فيه واسطة العقدِ

قضيتُ (لمصر) بالإمامة بينها
و ما لقضاءٍ شئتُه أنا من ردّ