يا جاري الطيب - طالب همّاش

في هذي الغيبوبةِ من ساعاتِ السكرِ الأولى
والشمسُ على بابِ المغرب ِ
ترتفعُ الأرواحُ كرفِّ حمامٍ فوق الوادي
ويطلُّ القمرُ الحلو ودوداً وحنونْ
يا جارُ تعالَ لنسهرَ قبل الليلِ
وبعدَ الليلِ
وطيّبْ نفسَكَ بالإصغاءِ إلى صوتِ الحسونْ !
يا جارُ تعالَ
ورقّقْ روحكَ بالموسيقى
لتكونَ رقيقاً وصديقا..
وتعالَ ولا تأتي
إلا من جهةِ الليمونْ !
شفَّ جمالُ الزهرةِ في الكأسِ
وشفَّ سوادُ العتمةِ في ماءِ الكأسِ
شفافيةً تسكرُ ماءَ القلبِ أسى وسكونْ !
فالنسماتُ ثمالى
وتهرهرُ أزهارُ الصفصاف ِ
الشتويّةُ فوق كراسينا
وأريجُ الخمرةِ يملأ ُهذا الكونْ .
فاسلكْ دربَ النهرِ
ولا تسلك دربَ الوعرِ
لعلكَ تسبحُ في مائيّةِ ليلٍ زرقاءَ
وتغسلُ قلبكَ قبل مجيئكَ
في ماءِ الضوءِ ..
لعلّكَ تقطفُ زهرةَ نيلوفرَ بيضاءَ
وسوسنةً لجمالِ الأبيض ِ
في سهرتنا
وكخاطرةِ الحالمِ بالحلمِ
تعالَ مع اللونِ الأزرقْ !
فأنا رتّبتُ كراسينا في دائرةٍ حولَ البركةِ
وسقيتُ أصيصَ الحبقِ العطريِّ
بماءِ الوردِ ..
وفوّارةُ ماءٍ تترقرقْ
يا جاري الطيبَ كالطيّونةِ
والموجعَ كالزيتونةِ
ما أمتعَ أن تهتزَّ طروباً
منشرحَ الصدرِ
لصدحةِ عصفورِ الدارِ
وأن يتقطّر قلبُكَ كالريحانة ِ
حتى تتحرّرَ روحكَ
وتحلقَ في نشوتها كفقاعةِ صابونْ !
ما أمتعَ أن تجلسَ جنبَ الرمّانةِ ،
وتذوبَ بصوتِ الحسونْ !
فتعالَ وضيّعْ نفسَكَ في ليليّةِ هذا الليلِ
فشأنكَ شأن العاشقِ
أن تسهرَ سهرتكَ الورديّةَ
بين الجرّةِ والنهرِ
وتصغي للريحِ الحاملةِ الموسيقى
من قلبٍ مكسورٍ ليتامةِ قلبٍ مكسورْ !
وتدوّرَ في مجرى الليلِ مصابيحَ الدورْ
.. شأنكَ شأنُ الناسكِ
أن تسهرَ منتظراً طاووسَ الصبحِ على السورْ
أن تشهدَ كيف يصيرُ القمرُ الطالعُ
من عشِّ الغيمةِ بعد الخمرة ِ
طائرَ نورْ .
ما حانَ أوانُ الغفوةِ بعدُ
فأمهلْ نفسكَ حتى تُسقى سقياها ،
والخمرةَ حتى تجري في بهجةِ روحكَ مجراها
واجلسْ كي نسمعَ حبّاتِ المشمشِ
تسّاقطُ في الماءِ العذبِ
ونسمعَ في منبلجِ الفجرِ الصافي
صفراتِ العصفورْ !
سبعُ إوزّاتٍ حطّتْ فوق كؤوسِ السهرةِ
واهتزَّ هزارُ النشوةِ في الأوتارِ
فوتّرْ نفسَكَ كالقوسِ ،
وأطلقْ سهمَكَ في نقطةِ عينِ العقلِ المخمورْ !
فسماءُ الأمسيّة هادئةٌ
والكونُ مصلّى
ومسيحُ الليل يرشُّ على السهرةِ
حفنةَ نورْ ..
لا تتعجّلْ بالشرب ِ
ولا تسكرْ من كأسٍ واحدةٍ
كأساً كأساً يتصفّى في عينيكَ زلالُ الحزنِ
وأسكرْ بين ذراعيكَ الجرّةَ ،
دوّرها بين يديك
المرّةَ تلو المرّه
لتدورَ نجومُ الليلِ برأسكَ
مثل كراتِ الرمّانْ !
بالكأسِ الأولى
ستشفُّ لكَ الرؤيا كسحابةِ صيفٍ شهباءَ ببركةِ ماء ْ ...
وبثانيةِ الكأسِ
ستبصرُ قلبَكَ يسبحُ داخلَ صدركَ
في ماءِ الصعداءْ ..
وبثالثةِ الكأسِ
سيصمتُ في عينيكَ الكونُ
كقديسٍ سكرانْ !
يا جارُ تعالَ إلى داري
ما أجملَ حُبّ الجيرانْ !
قلبي كروانٌ أزرقُ
مملوءٌ بغناءٍ شفّافِ
الرجعِ
وقلبكَ عصفورٌ
يتعلّمُ بالشرب ِ جمالَ الطيرانْ !
فأنا أجلسُ منتظراً أن تأتي
كي نسبحَ في نهريّة موسيقى
ونعلّقَ صوتَ الشحرورِ الراهبِ
والكروانِ القديسِ على غصنِ الدالية السهران ْ .
وأنا كلّ مساءٍ
أسهرُ كالقنديلِ الخائف ِ قدّامَ الأيقونةِ
منتظراً أن يأتي الألاّفُ
فلا يأتونَ سوى أطيافْ !
يا جاري المضيافْ !
إسهرْ حتى الفجرِ
لتسترخي الريحُ على راحتكَ المفتوحةِ
ويرين الصمتُ الشفّافْ !
همساتُ الموسيقى تسكرُ روحكَ في الأريافْ ..
ما آنَ أوانُ الغفوةِ بعدُ
وصوتُكَ في الليلِ جميلٌ يا جارُ
فغنِّ بأشجانكَ
يا ذا الصوت الطيّب حتّى أغفو
فأنا في الليلِ الوحشيِّ أخافْ !
لا أغفو إلا وأنا أسمعُ
أصواتَ الأضيافْ .