هكذا أخبرتني اليمامة - طالب همّاش

أخبروهُ بأنّ هديلَ المريضةَ‏
نامتْ أخيراً،‏
ونقَّلَها الاحتضارُ على راحتيهِ‏
كتفاحةٍ من شقاءْ!‏
أخبروهُ بأنّ الطفولةَ‏
راحتْ لتلعبَ في العيدِ فرحانةً‏
ثم أرجحها الموتُ‏
فوقَ براري الحداءْ!‏
بالأغاني التي حفظتها‏
وكلّ الدموعِ التي ذرفتها‏
على زهرةِ الفلّ‏
وهي تودّع قبلَ الرحيلِ‏
مراييلها المدرسيهْ‏
أخبروهُ‏
فما زالَ يحرثُ في الأرضِ فلاّحُ هذا الخريفِ‏
ويبحثُ عن زهرةٍ للرثاءْ!‏
أخبروهُ‏
فما زالَ حطّابُ أحزانها‏
يقطعُ الريحَ،‏
يجتثّها من جذوعِ المراثي‏
ليدفئَ أعمارنا في الشتاءْ!‏
كان يدركُ أنّ المواويلَ‏
أطعنُ من خنجرٍ‏
يغرسُ الحزنُ نصلته في وريدِ الهواءْ‏
كانَ يدركُ أن الدموعَ‏
أشقُّ على المرءِ من طعنةِ الظهرِ‏
أجرحُ من جرعةِ الخمرِ في الروحِ‏
قبلَ العذابِ‏
فغيّمَ في الريحِ‏
ثم تهاوى على جثّة بالبكاءْ!‏
كانَ يعلمُ أنّ الحمامةَ طارتْ مع الغيم‏
نحو حقولِ الغيابِ‏
فردّ إلى جهةِ القلب يسراهُ‏
ثم استدارَ إلى مغربِ الشمسِ‏
حيث تنوحُ المواويلُ فوق أعالي الألمْ!‏
حيث تبكي قصاصاتُ أرواحنا‏
الأرجوانَ الحزينَ،‏
وتتبعُ شمسَ الندمْ‏
لينادي على البحرِ:‏
يا أيها البحرُ!‏
يا مالئ الروحِ حزناً،‏
وغاسلَ أردانها بالدموعِ،‏
أما عدتَ تذكرُ تلك الصغيرةَ‏
وهي تحبّر بالماءِ زرقتها في الصباحِ،‏
وتدرجُ مثل الطيورِ على الرملِ؟‏
ما عدتَ تذكرُ تلكَ الشقائقَ‏
في خدّها المتورّدِ‏
وهي تفورُ احمراراً ودمْ؟‏
خانها الوردْ‏
واستلّها طائرُ الموتِ قبلَ الأوان،‏
وزهّرَ من دمعنا‏
فوق تربتها البيلسانُ‏
الحزينُ ندمْ!‏
كيف يمكنني أن أكفّنَ‏
شلالَ شَعْرٍ،‏
وزوبعةً من حمامْ؟‏
كيف يمكنني أن أحرّرَ زهرةَ قطنٍ‏
يحاصرها بالسوادِ قطيعُ الغمامْ؟‏
كيفَ أرثي فتاةَ الطفولةِ،‏
مطلعَ أغنية حملتها الرياحُ مع الغيمِ‏
حتى أقاصي المواويل،‏
فاسترسلتْ بالغناءِ‏
وصارتْ نداءَ الخريفِ الذي‏
يوجعُ الروحَ كلّ خريفْ‏
كيفَ أرثي هديلَ التي‏
لا تزالُ كشجرةِ سروٍ‏
تنادمُ شباكنا بالحفيفْ؟‏
كيفَ ألمسُ شالاً من الثلجِ‏
في شفقٍ ناشجٍ بالحليبِ،‏
وناياً يحلّقُ في أفقِ الدمعِ‏
مثل الكنارِ الكفيفْ؟‏
كيف أرثي هديلَ التي لا يداعبها النومُ‏
إلاَّ على مغزل الصوفِ‏
وهي تحوكُ سوادَ الليالي الشفيفْ؟‏
لم تمتْ!‏
هكذا أخبرتني اليمامةُ‏
وهي تنوحُ على شجرِ اللوزِ..‏
أخبرني طائرُ الوردِ‏
وهو يدوسُ على الثلجِ أوّلَ مرهْ‏
هكذا أخبرتني رياحُ الخماسينِ‏
وهي تقصّفُ راخيةَ الخيزرانِ العجوزِ‏
على حائطِ المقبرهْ‏
هكذا أخبرتني الأمومةُ‏
وهي تهدهدُ مهدَ هديلَ القديمَ‏
بأغنيةٍ مقفرهْ‏
أخبرتني الطيورُ التي بلّها الدمعُ‏
آخرَ مرهْ‏
قبِّلوها إذن!‏
قبلوها بنفسِ الشفاهِ التي قبلتها على المهدِ‏
وهي تناغي على مطلعِ الصبح‏
زهرةَ دمعٍ ولوزْ‏
كفّنوها!‏
بنفس الثيابِ التي لبستها‏
وراحتْ إلى الحقلِ‏
تركضُ مثلَ الزغاريدِ‏
خلفَ طيور الإوزّ‏
كفنوها!‏
وتهرمُ زيتونةٌ فجأةً‏
ثم تسقطُ أيقونةٌ بالبكاءِ‏
ويبكي الحمامْ‏
وهديلُ الحساسين قبل ولادتها المغربيّةِ‏
من مدمع الصبحِ‏
قبلَ ولادةِ أحزانها في الغمامْ‏
وقصاصةُ حزنٍ‏
تسيلُ على حسرةٍ تائههْ‏
في الظلامْ‏
وهديلُ غناءٌ أخيرٌ على مغربِ الشمسِ،‏
بنتٌ تطيرُ عكس الغيومِ جدائلها‏
كي تنامْ‏
وهديل (..)‏
سأبكي‏
وأنشرُ روحي كمحرمةٍ لدموعِ هلالِ الأماسيِّ‏
حينَ يمرُّ على سطحنا‏
قمراً بدويَّ الهيامْ‏
سأكوّرُ حزنيْ ككأسِ النبيذِ‏
وأدعوهُ مثلَ النبيّ‏
بسبع شموعٍ،‏
لتدمعَ عيناهُ في كأس روحي الحرامْ‏
فأنا الآنَ كهلٌ ضريرٌ‏
وكلُّ الحياةِ ظلامْ‏
"وهديلُ..‏
سألتُ الهلالَ على العاصيَ المترامي‏
فأخبرني أنّ بنتاً من اللوزِ‏
كانتْ تجيءُ إلى النهرِ كلّ مساءٍ‏
وتجلسُ في الصمت ذاهلةً‏
بانتظارِ لفيفِ الإوزّ‏
فما أن تحطّ على الماءِ تلك الكؤوسُ من اللازوردِ‏
المذهّبِ‏
حتى تغيبْ‏
وسألتُ لفيفَ الإوزّ فأخبرني‏
أنها عمّرتْ بيتها في المغيبْ"‏
*العاصي : نهر العاصي الذي يمر بمدينة حمص‏