سماء من الزقزقات - طالب همّاش

في الربيعِ فتحتُ عيوني
كصبحٍ فتيّ الرموشِ إلى الشمسِ
أنهلُ من نهدها المشتهى كالرضيعِ
وقد ضمّدت جسدي
بقماطِ الطفولةِ أمّي
وراحت تهزُّ جماليَ في المهدِ
مثلَ اهتزازِ المراجيح ِتحت َغصون ِالشجرْ .
..
لم يكد صوتُ ترنيمةِ المهد ِ
يُسكرني بالموسيقى
ويسحرُ سمعي غناء ُالعصافيرِ
حتى تدلّتْ على ناظريَّ الثريات ُ
صافية َالنورِ
واستغرقتني سماء ٌمن الزقزقاتِ
فأزهرَ قلبي كبرعم ِلوزٍ وسُرْ .
..
كانَ نهر ُروائح َيرحلُ بي فائح َالعطرِ
بين روابي الطفولة ِ
حيثُ الشموسُ التي طلعت ْ شهوتي
من صباحاتها كالطيورِ
ولونُ السماء الحليبيّ
صافٍ كماء ِالبحيراتِ
تسلبُ ألوانهُ الزرقُ شمسَ البصرْ .
..
لم تكن بعد ُرؤياي َغير عصافيرَ
تزقو على الغصنِ
ما نبتتْ في يديَّ البراعمُ
كي أشتهي القطفَ
لكنَّ تفاحةَ المشمشِ المشتهى في النهودِ
استدارت لعينيْ
كما يستديرُ لناظرِ طفلٍ
جمال ُالقمرْ .
..
فرأيتُ عناقيدَ أينعها الصهد ُ،
سكرى ، على أمِّها في التشهي
تسقسقُ تحت غصونِ الأنوثةِ
فاندلعَ اللوزُ في جسدي كالوحام ِ،
وراحت ثعالبُ أوردتي
تتراكضُ زرقاءَ فوق المروجِ
التي رعرعتني بأنسامها كالربيعِ
إلى أن تلاشى انحلالُ الشموسِ بماء ِالمطرْ .
..
وسمعتُ احتكاكَ الجذوعِ بناهدِ ريحٍ
تراهق ُ مثل غزال ِالينابيعِ
فارتعشت نشوتي كالنوافيرِ
في الأمسياتِ
وراحت تعضُُّ على رغبتي
خوخة ُالنهد ِتاركة ً
نقطة َالعسل ِالعذب في شفتي القانيه .
..
فجأةً طاشَ قلبي كالقشعريرةِ
بين الشرايين
حين تنزّلَ فوقي زقاءُ النهودِ
التي ضوّأتها الأنوثة ُمثل القناديل ِ
فاستسلمتْ شهواتي لتفاحِ زهرِ الصدورِ
إلى أن غدوتُ ضريراًً لمرآهُ
وهو يطيرُ كغيمة ِصيف ٍمورّدة اللونِ
فوق جوانح ِنَهرْ .
..
فانحنيتُ أعبُّ ُالنبيذَ من النبعِ عبّا ،
وأرضعُ من ثدي والدتي الأرض سرَّ الحياةِ
ولكنني ما ارتويت ُ
فرحتُ حزينَ الرؤى أتأمّلُ أسرارها
مثلما يتأمّلُ سكران ُ
سرَّ النبيذ ِالمعتّقِ في الخابيه
..
وكما يستحمُّ ُجمال ٌبجدولِ أنثاهُ
فوقَ بحيرة ِصبحٍ
سمائي استحمّتْ بزرقتها المشتهاةِ
وقد عطَّرتْ جسدي بالرياحينِ
رائحةُ الخلق ِ عابقة ً ..
وتقوّسَ فوقي بسبعِ شموع ٍملوّنة النورِ
قوسُ المطرْ .
..
فشببتُ كغصنٍ شجيِّ الحفيفِ على جانحِ الريحِ
أوّلُ شتوةِ غيم ٍ تبللتُ في دمعها أغرقتني
وقد راحتِ الروحُ ترفعُ أفواهها كالرضيعةِ
نحو غماماتها العاليه .
..
وبأوّلِ طلعةِ صبحٍ
رأيتُ ابيضاضَ الوجوهِ
التي سالَ قلبي على زهرها كالحليبِ
رأيتُ الفناجين َمثل رؤوسِ البلابلِ
بين شفاهِ النساءِ المدمّاةِ كالوردِ ..
والرشفاتُ تأوّهُ ماءِ النوافيرِ
في مشهدِ الغيمةِ الباكيه .
..
زهرةً .. زهرةً
كان قلبي ينبتُ بين الشتولِ
وباصرتي تستديرُ كعبّاد ِشمس ٍ إلى النورِ
طيرانِ طفلانِ كانا على كتفيّ يهزّان ِكالوترينِ
أغاني الصباح
فتسقط ُفوقي الحروفُ الصغيرةُ
مثل الحصى
والقصيدةُ تعلو عليّ
كما يتعالى هلالٌ صبيٌّ على ساقيه .
..
حينها انسابَ خيط ُ نسيم ٍ رقيقِ الأسى
عبر صدغيْ ،
وبصّرني الثلجُ ما يُشتهى في النساءِ
وما يتنزّلُ في سلّةٍ من سحابٍ عليّ
إذا أسكرتني نهودُ امرأهْ ..
وبريحانها حملتني كعطرٍ إلى أول الرابيهْ
* * *
آخر الصيفِ
رحتُ كطفل ٍشقي ٍّ أذوقُ الثمارَ التي طعمها طابَ ..
ألعقُ ما يتحلّب ُمن عسل ِالتينِ
كانت خدودُ العناقيدِ ناضجة ً
تتلألأ ُتحت دوالي الغروبِ
وخمرتها نقطةً نقطة ً
تتعتّق ُفي الخابيه .
..
كنتُ أعتصرُ الخوخَ كالنهدِ في راحتيّ
فأشعرُ رائحةَ العشب ِترشحُ من جسدي
كشميمِ الصنوبرِ في الحرشِ
أشعرُ أنّ الزهورَ استحالت إلى سربةٍ من بلابلَ
أنّ السنونو استحالت إلى زقزقاتٍ
ومن فرحي نبتت ليَ أجنحة ٌ
خافيه .
..
ذلكَ اليوم لم أدرك ِالصيفَ
غيرَ حساسين َسكرى بأصواتها في الغصونِ
ولكن رأيتُ الغدائرَ سارحةً في مهبِّ الأنوثةِ كالهدهداتِ
رأيت ُالسفرجل َأبيض َفوق حقولِ الطفولةِ ،
والأرض َضاحكةً
تستحم ُّ على حجرِ الصبحِ مثل الصبيّة ِ
تاركة ًشعرها ليسيلَ سنابلَ في آخرِ الأوديه .
* * *
في الخريفِ جلست ُكحطّابِ حزنٍ
على بابِ بيت ٍقديمٍ
أراقبُ أرضَ الحصيد ِالحزينةَ
ساكنة ًفي أفول ِالشموس ِالكئيبْ !
..
صارَ ماءُ الجداولِ دمعاً لتفسيرِ حزن العيونِ
وصوتُ الرياح ِموسيقى معذبةَ القلبِ
تبكي على شجرِ الحورِ
صارت زهورُ الحديقة ِأجراسَ نعيٍٍ
ترن ُّبرجع ٍكئيب ْ !
ها هي اليوم ترحلُ عني الطيورُ الرواحلُ
وهي تصفّقُ يائسةً كأغاني الوداعِ ..
وترجع نحوي الغيومُ الرواجعُ
ممطرةً من مراضعها
لبناً للغريب ْ !
..
غابتِ الشمس ُخلف سماءٍ مقمّطة ٍ بالدموعِ
ورانَ الأسى في الجبالِ
وقوسُ الهلالِ المقدّسِ تحت أساهُ السماويّ
يسبحُ مستغرقاً في سبيلِ المغيب ْ .
..
لم أرَ العمرَ إلا تعاقبَ فصلين ِ
شمسُهما دمعةٌ تتألّقُ في القلبِ ،
والأرضَ غيرَ معاطشَ أفواهُها
تتشقّقُ ظمآى
لتلقفَ كالقبرِ ثديَ الحياة الحبيبْ .
* * *
أوائلَ فصل ِالشتاءِ
شعرتُ بروحي تنحلُّ في مطرٍ دامعٍ
وتسيلُ كماءِ الميازيبِ صافيةً كالدموعِ
وقلبي استحالَ جداولَ مملوءة ًبالحليبِ
تخوّضُ في كلّ حقلٍ لريّ الربيعِ
ونفسي سكرى ، مؤنّثة ، تحت قوس القزحْ .
..
وشعرت ُبأنّ السحابَ المسافرَ يأخذني من يدي
إلى اللهِ
وهو يصب ُّعلى الكونِ ماءً قراحاً
ويجلسُ مبتهجاً في سماءِ الفرح ْ .
..
مشمسٌ جسدُ الصبح ِبين الينابيعِ كان ،
الطبيعةُ كأساً فكأساً
تصبُّ نقيعَ الغيوم ِعلى العشبِ
والصحو تضحكُ أقداحُهُ في فضاءِ المرحْ .
..
فأحسُّ بنفسي تذوب ُ
كقطعةِ ثلجٍ بماءِ القدحْ .
..
ناظراً نحو باصرةِ النورِ
في أفقٍ ماطرِ الغيمِ
أبصرتُ بقعةَ شمسٍ تزولُ وتظهرُ
عند انقشاع ِالغيومِ
كما طائر في المغيبِ بكى برهةً وصدحْ .
..
فجأةً صارَ لونُ الشتاءِ شديدَ الشحوبِ
وراحت غماماتُهُ تتلاحقُ ناعبةً في المغيبِ
فأدركت ُأنّي هرمت ُ
وأنّ المراكبَ تطلقُ أبواقها للرحيلْ !
..
فرجعتُ غريباً إلى الدارِ
يعتصرُ الحزنُ قلبي
وتدمعُ مني العيونُ
رأيتُ التصاويرَ تبكي التصاويرَ
والقبراتِ على أختها القبراتِ
رأيتُ الكمنجاتِ قد جوّفتها الليالي
وحزناً عميقاً يحدّبني فوق صدرِ الترابِ
وديدانهِ الجائعه .
..
فالحياةُ التي كنتُ أقطعُ أعوامها كالقطاراتِ ليلَ نهارَ
استحالت إلى سلحفاةْ
ولم يبقَ مني سوى رئةٍ
عشّشَ التبغُ فيها
وأعضاءَ مثخنة ٍبالجراحِ
وقلبٍ يجاهدُ مثلَ حصانٍ عجوزٍ
طريقَ الحياة الطويلْ .
..
ها أنا اليومَ أجلس ُقربَ سريري القديم
وقد رقدتْ قرب قلبي الحماماتُ ذابلةَ الريشِ
والحزنُ عمّرَ في داخلي
أتخيّلُ تلك الغيومَ سلالاتِ حزنٍ
مسافرةً كالملاءات ِفي أشهرِ الحزنِ
والسنواتِ العتيقةِ أوراقَ حبّ
ترفرفُ شاحبةً في حبالِ الأصيلْ .