فوق أبراج الحمام - طالب همّاش

متأبطاً ناييْ القديمَ،‏
ذهبتُ أبكي فوقَ أبراجِ الحمامْ!‏
لكأنني رجلُ الكهانةِ‏
في كنائسِ حزنيَ العالي،‏
وأتباعي اللقالقُ واليمامْ.‏
أَوَكُلَّما أصغيتْ أسمعُ من بعيدٍ‏
صوتَ روحيَ ضائعاً يتوجّعُ؟‏
أو كلما أحببتُ امرأةً‏
غرقتُ بحزنها؟‏
وأنا وحيدٌ ضائعُ!!‏
والروحُ ثكلى‏
والكمنجةُ لا تملُّ من الهزامْ!‏
والأرضُ أمُّ الناسِ‏
لم تشعرْ بآلامي‏
ولم تسمعْ صراخيَ في الحطامْ!‏
فحملتُ مزماري القديمَ‏
***‏
ورحتُ أبكي فوق أبراجِ الحمامْ!‏
لكأنّني شيخوخةُ الخسرانِ‏
في مُتَعَزَّلي العالي‏
وحارسُ وحشة المعتزّلينْ!‏
النائحينَ، المبعدينَ، الغائبينَ،‏
الموحشينَ المفردينْ!‏
أنا كلُّ هذا الثكل‏
محمولاً على أكتافِ من غابوا،‏
ومرفوعاً على الصلبانِ‏
من حواءَ حتى مريم الحزنِ المجدّفِ‏
في بحارِ النادمينْ!‏
نذراً عليّ لئنْ رأيتكَ‏
يا عزيزَ الروحِ من بعدِ الغيابِ‏
لأبكينَ إليكَ من مُتَعَبَّدي النائي‏
بكاءَ الفاقدينْ!‏
أنّى حللتَ وأنتَ مخلوقٌ فروقٌ،‏
موحشُ الدنيا، حزينْ؟‏
في أيّ (أيلولٍ) من الأيامِ‏
خلَّفكَ الخريفُ؟..‏
تضمُّ دنياكَ الحزينةَ في إزاركَ‏
لا تُبانُ ولا تبينْ!‏
ما زالَ صوتكَ لائباً في الروحِ‏
ما زلتْ خيولُ الريحِ‏
تحملُ في المساءِ‏
أنينَ مثواكَ الجريحْ!‏
يا ليتني حجرٌ على ذاكَ الضريحْ!‏
لأظلَّ أسمعَ نايكَ المعتلَّ‏
في الأيامِ..‏
ينشجُ: يا مسيحْ:‏
لهفي عليكَ وأنت ريحانٌ وريحٌ،‏
أن تباعدكَ السنينْ!‏
ضاقتْ عليكَ الأرضُ وهيَ رحيبةٌ‏
والنفسُ وهي عزيزةٌ..‏
فضممتَ روحكَ وانسللتَ بوحشةٍ،‏
كالخلدِ في رحمِ الظلامْ.‏
وتركتني مستوحشاً في ركنكَ النائي‏
يأوّهني هديلُ الروحِ كالناياتِ..‏
والحسراتُ تذروني كأصداءِ‏
المراثي فوق أبراج الحمامْ.‏
كلُّ الذينَ أحبهمْ حملوا حقائبهمْ وخلّوني وحيداً‏
بين عائلةِ اللقالقِ واليمامْ!‏
أبكي فيحفرُ ثعلبٌ في الأرضِ‏
أنفاقاً ليأسِ الروحِ‏
ثم يجوسُ في عتماتها‏
بحثاً عن المعنى الذي فقدتهُ باصرةُ الخليقةِ‏
حينما اكتشفَ الكلامْ.‏
ويشجّرُ اللبلابُ وحشته على الجدرانِ‏
بحثاً عن أنينِ الناي في الأعلى‏
فتسقطُ جثّةُ النهوندِ فوق الضارعينْ.‏
أبكي فيحتطبُ النشيجُ جراحهُ‏
بالفأسِ من حلقِ الرياحِ المرِّ‏
معتصراً ثمالتها على شفتيهِ‏
كالسكّيرِ‏
ثم يخرُّ مذبوحاً بسكّينِ الحنينْ.‏
ويضرّجُ الأفقَ الجريحَ‏
بصرخةِ الموتِ الأخيرةِ‏
ثم يسقطُ في انتحارٍ رائعٍ‏
فوق البراري‏
طائرُ الموتِ الحزينْ!‏
أبكي فتضربُ وحشةُ الحزنِ القديمةُ‏
في عراءِ الروحِ ميتمها الكئيبَ‏
وتقرعُ الأجراسُ ناحبةً‏
على أبوابِ مريمَ في ظلامِ الليلِ‏
قرعَ اليائسينْ!‏
ويرجّعُ الناقوسُ وحدتها الثقيلةَ‏
بالرنينِ الصعبِ ساعاتِ السآمةِ‏
ثم يغرقُ في دماءِ المنشدينْ!‏
وأنا حزينٌ‏
وسطَ هذي الريح‏
أنظرُ في فجاجِ الأرضِ كالنسرِ الجريحِ‏
وأكتفي بالدمعِ مثلَ العاشقينْ!‏
فالليلُ هذا المولويُّ الكهلُ‏
لم يتعبْ مَنَ التحديقِ في ندمي‏
ولم تحدبْ على روحي غداةَ اليأسِ‏
عاهلةُ الظلامْ!‏
فضربتُ كالبجعِ المهيضِ‏
بجانحي السكرانِ جدرانَ الهواء‏
وطرتُ كي أبكي وحيداً‏
فوق أبراج الحمامْ!‏
***‏
آنستُ ليلاً هادئاً‏
فجلستُ أنصتُ كاليسوعِ‏
إلى بكاءِ الروحِ‏
في مُتَعَبَّدي العالي..‏
وأحتطبُ النياحةَ من أعالي السنديانْ!‏
غيرُ الغيومِ السودِ‏
لم تشرفْ على يأسي..‏
وما سمعتْ بكائي‏
غيرُ أصواتِ الآذانْ!‏
وأنا الذي باكيتُ كلَّ حزينةٍ‏
ثكلى‏
فما قرأتْ على ليلي مراثيها..‏
ولا رقّتْ على روحي‏
سوى الناي الكفيفةِ والربابة والكمانْ!‏
يا ليتني شجرٌ أشيلُ الريحَ‏
بين جوانحي..‏
وأهزُّ أغصاني ليغفو العمرُ‏
في مهدِ الحفيفِ بلذّةٍ،‏
ويفيءَ تحتيَ عاشقانْ!‏
يا ليتني إبريقُ راهبةٍ‏
يذهبهُ غروبٌ (أخضرٌ)‏
وحمامتانِ حزينتانْ!‏
يا ليتني نايٌ‏
تكفكفُ دمعه شفةٌ‏
وتحضنهُ يدان رحيمتانْ!‏
يا ليتني مرآةٌ عاشقةٍ‏
تسرّحني ضفائرها الشفيفةُ‏
في سهولِ البيلسانْ!‏
يا ليتني قمرٌ طليقٌ في سماواتِ الأذانْ!‏
لا أقْرَبُ الأرضَ الضريرةَ‏
أو ألامسُ صدرها‏
إلا كما يرتاحُ عصفورٌ على صفصافها‏
وقتاً ويرجعُ للغمامْ!‏
فالأرضُ أمّ الناس‏
لم تشعرْ بآلامي،‏
وما سمعتْ صراخي في الحطامْ!‏
فحملتُ مزماري القديم!‏
ورحتُ كي أبكي وحيداً‏
فوق أبراج الحمامْ!