خريف يائس الأوقات - طالب همّاش

مستسلماً كالأحرفِ العطشى‏
إلى ياءِ النداءِ‏
ومنصتاً بالروحِ للصوتِ الحدائيِّ‏
الذي ينأى ولا يدنو‏
كأجراس الرَّحيلْ..‏
مستسلماً مثل الحمامِ إلى سماوات‏
معلقةٍ على أجراسها الكسلى‏
يموّجني هبوبُ الريحِ‏
كالقمصانِ في حبلِ الغسيلْ.‏
لا أسمعُ الناياتِ إلاَّ وهي تصفرُ‏
في أديمِ الليلِ باللاءاتِ..‏
والمزمارُ يخبطُ أعرجاً في الأرضِ‏
تتبعهُ نواقيسُ الدموعِ العاليهْ‏
ببكائها المعتلِّ، والصوت القتيلْ.‏
دنياهُ يا دنيا!‏
يغنّيها الغريبُ برجعهِ الموجوعِ‏
في أرجاءِ من رحلوا‏
ومن حزنٍ إلى حزنٍ‏
يأوّههُ بكاءٌ أعزلٌ في الروحِ‏
مجروح الهديلْ.‏
دنيا..‏
تقسّمها (مزاميرٌ) من الرّستِ الحنونِ‏
على مسامع عاشقينَ‏
مجمّدينَ على أديمِ فراقهم،‏
وعلى سكارى نائمينَ على ذراعِ الموت‏
كالمتصوفينْ.‏
ممحوّةٌ كالقمحِ في ماء الحنينِ حروفُهَا البحّاءُ‏
يرفعها النحيبُ على أنامل صوتهِ المبحوحِ‏
ثم يصبّها في الناي أغنيةً مقفّاةً‏
بأسماءِ الذين تغيبوا عن حانةِ الدنيا‏
وظلَّ خيالهم‏
أبداً على أبوابنا مطراً حزينْ.‏
لكأنما هي آخرُ الكلماتِ قبل الموت‏
والمُتَحَسَّرُ الأبديُّ للجمعاتِ‏
في تنويحها المفؤودِ‏
تُصْدِيِهَا كمنجاتُ الفراقِ‏
بقوسها المغروس مثل الرمحِ‏
في جسدِ المغني:‏
نمْ قريرَ العينِ يا ولدي الحسينْ!‏
وكأنها تكرارُ صوتِ سكينةَ‏
المذروِّ كالورقِ العتيق‏
على بلاد الرَّافدينْ.‏
لا هذه الصحراءُ مبكاي القديم‏
لكي أيممَ قلبي المهجورَ‏
شطرَ رِمالها العطشى،‏
وأنصابَ الكأبةِ‏
أو أسرحَ في براريها‏
ضفائرَ شعريَ السوداءَ‏
ليلاً إثر ليلٍ‏
كلما هبّتْ على الصحراءِ ريحْ.‏
لا شمسها شمسي‏
لتهدلَ نخلةٌ في الروحِ ذياكَ الهديلَ..‏
ولا استدارَ بأُفقها القمرُ الأشفُّ‏
لليلةِ العشّاقِ‏
كي أبكي على قلبي الجريحْ.‏
مستسلماً لليلِ كالفزاعةِ الثكلى‏
لأحزانِ الأمومةِ في السوّادِ‏
أهزُّ رأسي بالنياحةِ‏
بين مريمَ والمسيحْ.‏
لا شيءَ إلا دمعة الحسراتِ‏
تذرفها عيونُ اللَّيل في كفيْ،‏
وتلعقها شفاهُ اليأس أوقات السآمهْ.‏
ويدورُ ناعورُ الفراق على خريفٍ‏
يائس الأوقاتِ‏
كي يجترَّ ما أبقتْ ليَ‏
الأيامُ من ساعاتها الصفراء‏
وهي تهرُّ كالأكفان من شجر الندامهْ.‏
لا لم يعدْ إلاَّ السواد محدّقاً‏
في وحشتي‏
وأنا أحدّقُ في أناجيلِ المغيبِ‏
كناسكٍ أعمى‏
فيبصرني وأبصرهُ‏
ونمعنُ كالثكالى بالرحيلْ!‏
سقطتْ على تغريبةِ الروحِ الحزينة‏
آخرُ الناياتِ‏
والأحزانُ يُصديها تضرّعُهَا الحزينُ‏
على حديدِ الوقت‏
ثم يعيدها محواً على الأسماع‏
حزنٌ مستحيلْ!‏
لا شيءَ غير ربابةٍ‏
تبكي على صدرِ الغريب تصرّمَ الأيام‏
في سأمٍ‏
فيلقي رأسه السكرانَ‏
من وجعِ الحياةِ على مخدّةِ ركبتيهِ‏
مكفّناً ببكائه، وفراقهِ‏
ويغطّ في حزن طويلْ!‏
فكأنما لا بدّ من تغريبةٍ للروح‏
حين تحينُ ساعتها الأخيرةُ‏
كي تنوحَ على ضريحِ العزلةِ النائي‏
وتسقطَ مثل ليلٍ شاغرٍ‏
في حفرةِ الموت القتيلْ.‏