الوقوف على أطلال الوحشة - طالب همّاش

نأتِ الديارُ‏
فمن سيؤنسُ روحكَ المهجورَ‏
من سيضمُّ حزنكَ يا غريبُ؟!‏
الأرضُ كلُّ الأرضِ‏
تسمعُ شجوكَ العالي‏
فمن يبكي عليكَ إذا نأيتَ،‏
ومن يكفكفُ دمعكَ المذروفَ منْ؟‏
يا أيها الولدُ الكئيبُ!‏
فارقتَ دهركَ، والأحبةُ قد نسوكَ‏
وصرتَ وحدكَ في مغيب العمرِ؟‏
ترفعُ راحتيكَ معانقاً أفقَ الحياةِ‏
كأنكَ الرجلُ الصليبُ؟‏
لا النفسُ طابتْ بعدهم سَكَنَاً‏
ولا سودُ الليالي بعدما ابتعدوا تطيبُ.‏
تمشي كأنكَ خاسرٌ أبداً‏
وقلبكَ ناسكُ الهجرانِ‏
يا جبلاً تخدّدهُ الرياحُ‏
وتصدعُ الأحزانُ هامته،‏
ويصرعُه المغيبُ.‏
وبكيتَ لمْ يُجدِ التأوّهُ حسرةً،‏
وصرختَ لم تجبِ القفارُ.‏
نأتِ الديارُ..‏
فيا وحيدَ الليلِ‏
كيفَ تساهرُ الأيامَ؟‏
لا صوتٌ يمرُّ بحزنهِ المغلوبِ في‏
ديجوركَ العاتي، ولا قمرٌ يُنارُ.‏
لو وردةٌ في الروحِ‏
يا ذا الحزنِ‏
لو بابٌ إلى النسيانِ‏
لو دربٌ تعرّجهُ الكنيسةُ والمزارُ.‏
لكنّ عمركَ راحلٌ في الريحِ‏
لن تجدي الطفولةُ في سنابلها‏
بهزِّ فؤادكَ البالي‏
ولن يُجدي احضرارُ.‏
يا أنتَ يقتلكَ الفراقُ‏
فَمِلْ برأسِكَ باكياً‏
فوقَ التصاويرِ التي أحببتها قبلَ الرحيلِ!‏
أواهِ كمْ أوحشتهمْ،‏
كمْ صرتَ مبتعداً وصاروا‍‍!‏
يا للأباريقِ التي شفّتْ بروحكَ،‏
والخمورِ إذا شعرتَ بدفئها‏
لكنها ليستْ تُدارُ.‏
نأتِ الديارُ،‏
وأقفرتْ بعدَ العشيةِ‏
والحمامُ لهُ هديلُ.‏
ألأنهُ الزمنُ البخيلُ؟‏
أمسيتَ وحدكَ في شمالِ الليلِ‏
تبحثُ عن أليفٍ لم يغيّبهُ الرحيلُ.‏
يا ذارفَ الدمعاتِ هذي الروحُ عاريةٌ‏
فزمّلها بطرفِ ردائك البالي،‏
وهُزَّ بشجوكَ العالي شجيراتِ النعاسِ؟‏
فليلُ فرقتها طويلُ.‏
لا شيءَ يأتلفُ المكانَ سوى‏
مرورِكَ في المغيبِ مُضيِّعاً‏
والأرضُ منعاها العويلُ.‏
ألأنَ قلبكَ دامعٌ خلفَ الطلولِ‏
بكتْ عيونُ الخيلِ في بغدادَ‏
وانجرحَ الصهيلُ؟‏
يا ويحَ حزنكَ يا بعيدَ الدارِ‏
لا حورٌ لتبكي تحتهُ مُرَّ الحفيفِ،‏
ولا حمامات ليهتزَّ النخيلُ.‏
لا قلبُ أمّكَ ناحبٌ عند الغروبِ على فراقكَ،‏
لا صبيّةُ حبّكَ البيضاءُ داريةٌ بوجدكَ،‏
ولا نوافذُ أمسكَ المنسيِّ‏
يُشرعها على البستانِ مِطلعَكَ الجميلُ.‏
طاعنتَ في الأحزانِ أياماً بلا عددٍ‏
ووخَّطكَ المشيبُ..‏
فيومكَ آزفٌ نحو الغروبِ،‏
ووجهكَ المكدودُ يعروهُ اصفرارُ.‏
(ستجيئكَ النوقُ العشارُ‏
وفوقها جثثُ الذين تحبهمْ) بعد الأوانِ‏
فلن تميّزَ ركبهمْ‏
ستكونُ شمسك قد مضتْ،‏
وتكونُ قد خلتِ الديارُ.‏