رؤيـا .. - أدونيس

هرَبتْ مدينتُنا
فركضتُ أسْتجلي مسالكَها
ونظرتُ - لم ألمحْ سوى الأفُقِ
ورأيتُ أن الهاربين غداً
والعائدين غداً
جسَدٌ أمزّقه على ورقي.
..
ورأيتُ - كان الغيمُ حُنجرةٌ
والماء جُدراناً من اللّهب
ورأيتُ خيطاً أصغر دَبقاً
خيطاً من التاريخ يَعلقُ بي
تجترّ أيامي وتعقدُها
وتكرّها فيهِ - يدٌ ورثتْ
جنسَ الدُّمى وسُلالة الخِرَقِ.
..
ودخلتُ في طقس الخليقة في
رَحِم المياه وفِتْنَةِ الشّجَرِ
فرأيتُ أشجاراً تراودني
ورأيت بين غُصونها غُرفاً
وأسرّةٌ وكوىً تُعاندني،
ورأيت أطفالاً قرأتُ لهم
رَمْلي ، قرأت لهم
سُوَرَ الغمام وآيةَ الحَجَرِ؛
ورأيت كيف يسافرون معي
ورأيت كيف تُضيء خلفهمُ
بُرَكُ الدّموع وجُثّةُ المطرِ.
..
هَربت مدينتُنا -
ماذا أنا، ماذا؟ أسنبلةٌ
تبكي لِقبّرةٍ
ماتت وراء الثلج والبَردِ
ماتت ولم تكشف رسائلها
عني ولم تكتب إلى أحدِ،
وسألتُها ورايت جثّتَها
مطروحةً في آخر الزّمنِ
وصرختُ - "ياصمت الجليد أنا
وطَنٌ لغربتها
وأنا الغريبُ وقبرُها وطني".
..
هربت مدينتُنا
فرأيتُ كيف تحوّلت قدَمي
نهراً يطوف دماً
ومراكباً تنأى وتتّسعُ
ورأيتُ أن شواطئي غَرَقٌ
يُغوي وموجي الريح والبجعُ.
..
هربت مدينتُنا
والرفضُ لؤلؤةٌ مكسّرةٌ
ترسو بقاياها على سفُني
والرفضٌ حطّابٌ يعيش على
وجهي- يلملمني ويُشعلني
والرفض أبعادٌ تشتّتني
فأرى دمي وأرى وراء دمي
موتي يُحاورني ويتبعني.
..
هربت مدينتُنا
فرأيت كيف يُضيئني كفَني
ورأيت - ليت الموت يُمهلني.