مهرجان الرؤى - عبدالناصرحداد

أطلِقْ خيولَكَ في دمي
لا الريحُ تثني أخضري
لا الموتُ يقتلع الجذورَ
تشبَّثَتْ رئتي بخاصرة الهواء، ولم أزلْ
أقوى على حمل انتكاسات الترابْ
أطلق خيولك في دمي
هذي المواسم تخرِج المكنونَ
تنتزع الخناجرَ من فمي
وتبرعم الأسرارَ
أطلقْ..
كلّهم ناموا
فرعداً.. كي أفجّر صحوَهمْ
برقاً.. لأفتح أعينَ الأحجارِ
أو وعداً..
لألقي حلميَ الأبديَّ يبلع وهمهمْ
ويدِي.. لأخرجَها بلون الماءِ
أعتصرُ السرابْ
أطلِقْ خيولكَ
ذي سباخ القلب تخصِبُ
والرؤى انفتحتْ على أفلاكها
انهمرتْ على شفتيَّ
وانبجسَتْ حروفاً،
أنجماً زُهراً،
كواكبَ
ها يدي لمستْ حرير الشمسِ
تنسج للهُيام شراعَهُ الضوئيَّ
ها خدي استراح على فراش قصيدةٍ
رضعتْ حليب الغيمِ
لا طَلَلاً.. لأرثيَ
لا سعادَ تفكّ عقدةَ جدولي
لا خيل تقتحم النهارَ
ولا بذارَ لتربتي كيما أفكّ رموزها
لا شيءَ
لم أبصر سوى كتلٍ من الأطيانِ
بلّلها المهينُ
وغادرتْ فردوسَها
التصقتْ بقاع الوقتِ
حجَّرها السباتُ
فمشعلاً.. كيما أضيء كهوفها
ناراً.. لأصهر قيدها
شمساً لأبتلع الضبابْ
أطلق خيولك في دمي
حرفاً.. فحرفاً..
كي أسيل على ثرى الرؤيا
وأطلع أخضراً من أزرقٍ
وقرنفلاً من زنبقٍ
قمراً شهيَّ اللثمِ
قيثاراً من الأهدابِ
ريماً فاتناً
شمساً من الضحكاتِ
أو سيلاً من النيرانِ
أشربه فأغدو مارداً
سأعيد تشكيل الفصولِ
صياغة الأشكالِ
فصلاً من مياه النار +
فصلاً من غضار الوقتِ
أخلق من هلام الضوءِ
سيّدة المواسم والفصولْ
أطلق خيولك في دمي
لو أخطأ الأعراب في إعراب هاجسيَ البهيِّ
لأمطرَتْ لغتي عليهم لعنةً
صادٍ إلى صاد أنا
والراء ألثمها فينهمر انبثاقي
كنتُ عيناً فُجّرتْ
قبل اتحاد الباء بالدال العليَّةِ
صامد ألِفي على ألْف انهيارٍ
لوّنتْ لامي شفاه النون فائتلقتْ
وكنتُ مزيجها أبداً
ولم أهجر سنابليَ النديةَ
كنتُها
قبل انفراج غمامتين عن السدومِ
وقبل إخراجي لرأسي المطفأ العينينِ
من جوف المحارِ
كأنما سال الفرات على جبينيَ
لم يكن طلقاً.. ولكنْ
كان إيذاناً ببدء مواسم حُمِّلتُها
مذ كنت لؤلؤةً
وكان النور يسري في خلايايَ الشفيفةِ
كنتُني
قبل اغتراب الروحِ
قبل الجدبِ
قبل فراقنا
فاهطلْ وسافر في دمي
هذا حضورك أيقظ الأعشابَ
فتّح أعين الأزهار، ألهمها الشذى
ما غادر الشعراء من كفيك بعدُ
ولم تزل فيك اختلاجات المواسمِ
تسلب اللبّ اللّبيبَ
وفي حضوركَ
ألف دالية تسرّح شعرها
بل ألف زنبقة تزنِّر خصرها
وعلى يديكَ الطير ترضعني الغناءَ
وكلما أرمي شباكي الجائعات على شفاهكَ
أنتشي ألقاً، وأقتنص الغمامْ
أطلق خيولك في دمي
الآن أبصرُني
وأبحرُ في مجاهليَ القصيَّةِ
ها دمي حين اتحدنا صار وردياً
وها ثغري.. بنفسجةً
وذي عينايَ
أجنحة نمت لهما
وذي كفي تلامس وجنة الصحو البهيةَ
ها دنانٌ
ها دنانْ
الآن يمتزج انهمارك وانهماري
في غمار المهرجانْ
العرض الأول
هاطلٌ في دمي كانبثاق السنا
أرشف الطلّ من شفتيكَ
فأدخل في صحوةٍ حالمةْ
هاطل في دمي
عانقتْ راحتي وجنتيكَ، انهمرتَ..
فكان مسيل الرؤى وافراً
كاخضرار المواسمِ
كان حضوركَ في خافقي
حاملاً جذوة الشعرِ
لمّا امتطيتُ نشيديَ
أضرمتَها كوكباً في مداري..
وكان انسكاب اللهيبِ
على مقلتي الساهمةْ
واصل الهطلَ
هذا أوان التماوج في داخلي
علّني أُغرق الهمَّ في يمِّ ضوئي
وعلّي
-على بعد حرفين من يقظتي-
أنهَرُ الأمَةَ النائمةْ
كلهم غافلونَ
فرعداً.. لأشعل نار الفضيحةِ
برقاً.. لأبقر بطن الهزيمةِ
وعداً.. ليبتلع القلب كلّ الأفاعي
ويخرِج كفّيه مثل الغمامِ
لهم ما يشاؤون جدباً وقحطاً
ولي ما يشاء انهمارُك خصباً وفير النماءْ
هاطل في دمي
ودمي هاطل في الضياءْ
واصل الهطلَ
ها شطحة تقذف اللبَّ
في سابحات الأماني
يهيم على بدره سائحاً في أريج الندى
كحَّل المقلتين بزنبقة شربَتْ ضوءَهُ، فتلاشى..
وكان الفناء ابتداء الحضورِ
وكان الحضور ابتداء الغيابِ
وكانت نواة التشكّلِ
ظاهرة في الكمونِ
وكامنة في الظهورِ
وذاهبة في الإيابِ
لها ظاهرانِ
لها باطنانِ
لها ما لها من بهاءٍ
تكثّفَ في راحتيك غماماً
فأطلق خيولكَ
كي ألتقي بي.. بها
ويكون التوحد والانطفاءْ
هاطل في دمي
ودمي.. هاطل في الضياءْ.
العرض الثاني
محملة بالحروف الشهيةِ
أغصانك الوارفةْ
محملة بالجراح القديمةِ
أحرفيَ الدامياتُ
فأرسل سيولكَ
قد نلتقي في ربيع الأماني
جميع أمانيَّ موقوتةٌ
وتنتظر اللحظة الخاطفةْ
ولما انهمرتَ على بيديَ الممحلاتِ
استفاقَتْ ظبائي
وراحت تعانق أغصانك الوارفاتِ
وتستنشق النورَ في ظلّها
وراحتْ تراقصني الكلماتُ
وتسكب خمرتها في دمي
حضورك يستنفر القلبَ
يسلبه لبَّهُ،
فينزّ حروفاً.. حروفاً
ويُسْلِمُ للوجد أهدابَهُ.
للوجد أفلاكه النّيراتُ
ومَنْ هام في ملكوت سناهُ
سيبصرني خاشعاً في حضوركَ
منذهلاً بابتسامات أدمعك الهامياتِ
على شجر الحلم تلثم أغصانَهُ
فتفزُّ الأماني
وتدخل في خضرة دائمةْ
محملة بالحروف الشهيةِ
أغصانك الناعمةْ
محملة بالجراح القديمةِ
أحرفي الدامياتُ
فأرسل سيولكَ
قد نلتقي في ربيع الأماني
جميع أمانيَّ موقوتةٌ
وتنتظر اللحظة الحاسمةْ
ولما انهمرتَ على راحتيْ انبجستْ من مساماتها
ألف زنبقة وقصيدةْ
وراح مداديَ ينساب نهراً من اللؤلؤ الأسودِ
وراحت طيور الرؤى
تنقر الطلّ فوق حشيش يدِي
وتدخلني في طقوس الذهولْ
حضورك هذا البهيجُ،
البهيُّ،
القتولْ،
حضورك يزرعني في الضياءِ
ويطلع من شفتِي سنبلةْ
محملة بالحروف الشهيةِ
أغصانك الهاطلةْ
محملة بالجراح القديمةِ
أحرفي الدامياتُ
فأرسل سيولكَ
قد نلتقي في ربيع الأماني
جميع أمانيّ موقوتةٌ
وتنتظر اللحظة الفاصلةْ
ولما انهمرتَ على شفتيَّ
لثمتُ شفاه الرؤى
واتحدتُ بكل النقاط،
وكل الفواصلِ
فانحسرتْ غفلتي
وأفقتُ
وإذْ بالتراب يقيّد أشباهَهُ
والنهار تدلّى على مشنقةْ
فأطلق خيولكَ..
رعداً يجلجل هذا الترابَ
وبرقاً يبدِّد هذا الضبابَ
ووعداً.. ليبلغ سيلي زباهُ
فأُخرج كفّيَ كالصاعقةْ
محملة بالحروف الشهيةِ
أغصانك الناطقةْ
محملة بالجراح القديمةِ
أحرفي الدامياتُ
فأرسل سيولكَ
قد نلتقي في ربيع الأماني
جميع أمانيّ موقوتةٌ
وتنتظر الصاعقةْ.
العرض الثالث
واصل الهطلَ الجميلْ
واصِلِ
الهطلَ
الجميلْ
كلّما حامَتْ حمامات الرؤى
ينساب من صوتي الهديلْ
إنه آن التجلي
والتلاشي
إنه آن انبجاس الفجر
من أهداب حلمٍ سلسبيلْ
إنه الوجد الجليلْ
واصل الهطلَ.. انتشلني من ضياعي
ليس إلاك الدليلْ
كلهم ضاعوا
فرعداً.. أمتشِقْ روحي
لأعلو عن سفاه الطينِ
برقاً.. أمتشِقْ قلبي
لأمشي فوق أمواج السنا
وعداً.. لتنساب القوافي
علّها تبتلع الوهمَ
وكفّيْ تمتطي الضوءَ الأسيلْ
واصل الهطل الجميلْ
عندما أطفو على سطح الندى
في راحتيك، الشعر يهمي
من سحاب المستحيلْ.
العرض الرابع
مفاتيح الرؤى مطرٌ
وقلبي ظامئ أبداً
إلى تهطالكَ العطرِ
ففوحي يا حروف الغيمِ
بوحي بانبجاس الخصبِ وانهمري..
سراب كلها الصورُ
ولا- إلاك- قافيةً
تفكّ لجام أنوائي
وتصهل في شراييني
يسيل البرق في يدها
وتصبح نارها مائي
فأنفث مثل تنين
فواصِلْ هطلكَ.. اغمر واحة الرؤيا
وأطلِقْ خيل مستتري
ألا ناموا
أجل.. ناموا
فرعداً يا شقيق الغيثِ
أنهَرْهمْ
وبرقاً يا صبيَّ النارِ
أصهَرْهمْ
تدنَّسَ ماؤهم علقاً
وماؤكَ طلُّ نسرينِ
فواصِلْ هطلكَ
انشر عطرك الفوّاح في رئتيَّ
علّي أعتلي عبقاً
وأسرج صهوة الكلماتِ
أسبح في ندى نغمٍ
وأرشف رعشة الوتر
مفاتيح الرؤى مطرٌ
فيا أضلاعيَ انهمري
لهيب الثلج في شفتيَّ يصهرني
أسيل على تراب الوجدِ
متّحداً بداليةٍ كنهر الراح راحتها
تمرّرها على لغتي
فتنهض أحرف ظمأى
وينهَدُ صدر نرجسة تراودني مفاتنها
فيصحو الأخضر المزهوُّ بالزهَرِ
سأنسج من خيوط الماء أغنيةً
أموسقُ هدأة السحَرِ
أراقص فتنة الإشراقِ
أطلع أنجماً خضراءَ
أطلع أحرفاً بيضاءَ من شفتيَّ
ألثم وجنة القمرِ
مفاتيحُ الرؤى مطرٌ
فيا أضلاعيَ انفجري.
العرض الخامس
سأمضي في شذى الأمطارِ
علّي في غمار الهطلِ
أنسى طينيَ الممزوجَ بالأدرانِ
أغدو نهرَ أنوارِ
غناء الماء سيل في شراييني
وقلبي سابح في الضوءِ
يزجي صهوة الأنغامِ
يهمي بوحَ قيثارِ
تراب الماء يُنْمي ألف عشتارِ
هواء الماءِ
نار الماءِ
سرّ الماءِ
أرسى كل تكوينِ
وأسرى في فضاء الروح ألحاناً
تهامَتْ فوق أوتاري
فأطلق خيلكَ.. اغمرني
تدفّقْ يا سليل الفجرِ
فجِّر بعث نوّارِ
قوافيك التي فاضت على قلبي
خرير الضوء يغريها
لهيب الحرف يدعوها
لتمضي في ندى النارِ
تدفّقْ..
واغمر الأفلاكَ
سافرْ في فضاء الروحِ
بلّل طينتي طيباً
وبدِّلْ كل أطواري
إذا ما صرتُ مائياً
يموج الوجد في كفّي
فتهمي خمرة الرؤيا
على أغصان أشعاري.
العرض السادس
يا أيها الهامي على قلبي
سيولاً من لهيبِ
أيقِظْ هشيمَ الكلمات
اسكبْ عيوني في دنان الوجدِ
وابعث في صدى بوحي
غناء العندليبِ
لا الريح تثنيني
ولا عصف الخطوبِ
اغمر دمي
واجعل خيوط الماء من نور ونارِ
لا الريح تثنيني ولا عصف الدمارِ
شيَّدتُ صرحاً بين كفَّي انهياري
شربتُ ملحَ الليلِ
صافحتُ انكساري
ولم أزل متحداً بالشمسِ
يحييني احتضاري
العرض الأخير
أمْطِرْ.. رؤىً
أمْطِرْ رؤىً
فالريح بلّلها الغبارْ
أمطِرْ..
وفُكّ عن المدى هذا الحصارْ
ذاكم دمي..
وعليّ تشكيل النهارْ
أبرقْ..
تزاحَمَ في يدي ألق الندى
سالت جداولُ من نضارْ
أبرِقْ ليكتمل انطفائي
عندما أهمي على الأوراق أنتعل الرياضْ
أبرق وكحِّل خافقي
ذاكم دمي..
وعليّ أن ألج البياضْ!.