من جدل القلب - علاء الدين عبد المولى

يجتاحُني فَجْرٌ،‏
زوارقُ رغبتي جنَحَتْ إليكِ‏
أصابعُ النِّسيانِ فكَّتْ عن ضفافِ الوقتِ أشجارَ الخريفِ‏
فتظاهري ضدَّ الحجارةِ في خُطاكِ‏
وطالبي الأقمارَ أن تُلْقي وصايا النُّورِ‏
في أُمَم النَّزيفِ‏
وتقمَّصي مطراً وعودي وعلةً‏
أو عشبةً، أو وردةً بيضاءَ تحضُنُ أختَها الحمراءَ‏
واشتعلي أمامي‏
زهراءَ، أبني من شذاها بعضَ ما امتلأتْ به روحُ الحطامِ‏
مَنْ أنتِ؟ حتَّى أستفيضَ أمامها كالبحرِ؟ لا تتساءلي‏
وتجاهلي هذا الجنونَ،‏
فتلك أرضُ بصيرتي اكتشفَتْ نوافذَ فضّةٍ‏
يتسرَّبُ الإيقاع منها...‏
أنتِ مائدةُ الحوارِ،‏
يداك مفتاحُ الكلامِ‏
وأنا بيوتٌ أُقْفِلَتْ بالحزن، فافتتحي‏
أضيئي كوكبي الأقصى تدلَّى من ثريّاتِ الهيامِ‏
وتجوَّلي في تيه أعماقي، ارفعي حجر الظَّلامِ‏
تجدي المغنّي داخلي جسراً تمرُّ عليه قافلةُ الوجود الرَّاحلِ‏
وإذا عثرتِ على الطَّبيعة داخلي‏
فتقاسميها كلَّها ودَعي لروحي فطرةً أولى،‏
وقلباً ضلَّ عن أسمائه الحسنى‏
وألَّفَ فيَّ غيماً للجنونْ‏
ما زال يبحث عن تراب فوقَهُ يرمي تحيَّتَهُ،‏
ليقدر أن يكونْ‏
حرّاً كما ذكرى تفاجئ حارس الظّلماتِ‏
تدخلُ أيَّ نافذة،‏
تعيدُ قراءة الأشياء، تكسر لي المرايا‏
وتشدّني نحوي فأمسك بي،‏
كأني من جديد أُكْتَشَفْ‏
فإذا أنا فخّارُ أحزانٍ على جدرانِهِ‏
سال الغناءُ البابليُّ،‏
وفيه يُعتَصَرُ النَّبيذُ،‏
ومنه تُبْتَكَرُ التُّحَفْ‏
لا تغلقي باب الصَّباح عليّ، أنتِ صباحُ بابي‏
منه سأدخل نحو أصدائي القديمةِ،‏
منه أبتدئُ التجوّل في ضبابي‏
لألمَّ ذاكرةً تشظَّتْ في الهواء‏
أديرُها في الرّيح أطلقها طيوراً‏
نحو عائلة القبابِ‏
أنت الّتي لا أدّعي ذهباً لحضرتها،‏
ولكن أدَّعي غَيْبي بها‏
لأغيبَ بضع مواسم عنّي، وأسهو عن خرابي...‏
فأراكِ عصفوراً بريش بنفسجٍ‏
ويدين من زهرٍ خجول طازجٍ‏
وسريرَ أفكارٍ تحطّ عليه أسراب الحمامِ‏
هذا أنا: صيَّادُ أشواقٍ، وصيْدٌ للصَّدى‏
فخُذي جميعَ فرائسي الزّرقاء والخضراء والحمراء‏
والتحفي بأجفاني،‏
ونامي...‏
...........‏
نامي، ولي صحوٌ فضائيٌّ ولي أرقُ الأنامِ‏
هبطتْ مخيِّلةٌ معطَّرةٌ،‏
أضاء المخملُ الشفَّافُ في جسد المجازِ‏
وشممتُ طيبَ الأرض من نَحْوِ الحجازِ‏
وسمعتُ بوح العاشقين من الخيام اللّيّناتِ‏
وجوهُهُمْ كدموع آلهةٍ‏
ورغبتهمْ صهيل الآلهاتِ‏
ورأيتُ نفسي بينهم أتلو عليهم ما حفظتُ،‏
فقيل: صمتاً يا فتى...‏
فهنا نقولُ بلا كلامِ...‏
دع عنك شيطان اليقينْ‏
اسلك متاه الشاردينْ‏
واتبَعْ ضلالَكَ‏
وانفصل لتنالَ من فصلٍ وصالَكْ‏
وارجع إلينا يا حفيدَ الوجدِ،‏
يابْنَ اليأسِ خلاّقاً‏
كأنَّكَ لم تكن ذكرى على جَمْرِ الغضا‏
ترخي ظلالَكْ‏
كم مرّةٍ نوديتَ: أنتَ على شغاف القلبِ‏
تمشي غافلاً، فاخلع نعالَكْ‏
واقبَلْ مزيجَ الوقت في إبريق ساعاتٍ‏
تعانقُ خمرةً معصورةً بيدِ الدّهورِ‏
والرّوح بين يديكَ طيِّعةٌ ومطلَقَةُ السُّرورِ‏
فاسكر على الجنبَيْن،‏
أين تألّقتْ عيناكَ، فالآفاقُ من نارٍ ونورِ...‏
صمتاً إذاً... ما للكلام المستحيل؟ ومَنْ أحالَكْ؟‏
قلنا وقيَّدَنا الكلامُ، فلا أبا لكْ‏
اسفَحْ جمالَكَ كلَّهُ لتصدِّق الأنثى جمالَكْ...‏
............‏
نامي... ولي كبدُ القصيدةِ، مجمَعُ الخمرَيْنِ فيه:‏
أنتِ واللّغة العتيقَهْ‏
نامي... هنا أوراقُ أحلامي تطيرُ من الأغاني‏
كلَّما حركتُ أوتاري، سمعتُ صدى حريقي‏
ثمَّ انحنيتُ على دماري‏
نوَّرتُ بيتَ الرّوح رقّصْتُ الغيابَ على أصابعه‏
أفاقَتْ من مغارتها القصائدُ...‏
كلّ أنثى ظلُّها شِعرٌ‏
وتحتَ لسانها نبعٌ من السّحر القديمِ‏
يضيءُ وعد الياسمينْ‏
يسقي نباتَ العارفينْ‏
ورأيتُ صوتكِ منذراً ومبشّراً‏
مغزولةٌ كلماتُه بنسيج "مريم" أمِّنا‏
قال: انتبهْ لخطاك يا مجنونُ...‏
وانفتحَتْ مخابئُ ذكرياتٍ...‏
كلّهنّ يقلْنَ يا مجنونُ‏
قلبي أيها الملعونُ‏
ضع مزمارَ حبِّك في شفاه اليأسِ‏
واسمعْ نبضَكَ المخزونَ في حجرِ البكاء‏
واعزفْ لكونٍ شرِّدَتْ قطعانُهُ من راحتيكْ‏
هل كنتَ تبحَثُ عنكَ فيكَ،‏
وأنتَ في الشّرفات- هاربةً- تقيمْ؟‏
الأرضُ فجرٌ آخَرٌ لنشيدِهِ سجدَ المغنِّي‏
فاذهَبْ إليها أيّها القلبُ الموزَّع بين أقطاب الرَّحى‏
كالبيدر المنفوشِ من فرح وحزنِ‏
غشَّتكَ لاعبةٌ، وباعك ساحرٌ،‏
هل جاء وقتُ الصَّمتِ؟‏
نامي مرّةً أخرى، لأصحو مرّةً أخرى،‏
أعلّمكِ السَّهَرْ؟؟؟‏
:ضمِّي يديك على القَمَرْ‏
ولتسمحي للغيم أن يجلو الفضاءْ‏
أصْغي لإيقاع الكواكبِ في السَّحَرْ‏
الكونُ في عينيكِ أصغَرُ من حنيني‏
إلاّ قليلاً، فاستعيني‏
بالدَّاخل العاري، أضيئي‏
محرابَ قلبكِ بالصّلاة مع الشّجرْ‏
لا تقرئي كتباً، وطوفي حول عطر مستتِرْ‏
خلف الضَّمير، فكلُّ وردٍ مستمرْ‏
بعبيرِهِ... استمعي إلى النّسيان حتّى تذكُري‏
وكلي من الشَّجر المحرَّم واكبري‏
فجرَيْنِ... وارتدِّي إلى حجرٍ يذوِّبه حَجَرْ‏
هذي هي الجدرانُ راكعةً وراءك،‏
والدّجى شيخٌ جليلٌ ينتظرْ‏
أن تأمريهِ بالرَّحيلْ‏
هل تبصرين الآن زهرَ النَّوم نامْ‏
والصّحو صحوٌ منتصرْ؟‏
فإذا فتحتِ الفجرَ بابَ القهوة السَّوداءِ،‏
وانتشر النّعاسُ على هوائكِ،‏
داعبيه بكلّ ما أوتيتِ من "فيروزَ"‏
أصْغي مرَّةً أخرى‏
سيقرعُ بابك الخشبيُّ‏
يدخلُ شاعرٌ ثمِلٌ بصَحْوٍ لا يزولْ‏
ويقولُ: ما أشهاكِ هذا الفجرَ،‏
يا أنثى الرَّبيع، ويا مرتِّبة الفصولْ‏
يا حلْمَ عاشقةٍ رأتْ مطراً ورائي نازلاً‏
لا تسألي ما سرُّ أسبابِ النُّزولْ‏
واستسلمي لنبوءةٍ مائيَّةٍ‏
فاضَتْ على ظمأ الحقولْ‏
فالأصلُ: ماءٌ خالقٌ‏
وأنا ربيتُ على الأصولْ...
__________‏
23/2/1999- 31/3/1998‏