معلقة على ظلالِ الجسد - علاء الدين عبد المولى

ألا هُبّي بعريكِ دثّريني
فوحدكِ من لها يزكو حنيني

ولا تُبقي عليَّ، فكلُّ بقيا
من الأضلاع تضرعُ: أسكريني

سريتُ إليكِ في غسق البرايا
سليلَ النّور، مئذنةٌ جبيني

طريدَ قبيلةٍ تَطأُ المغنيّ
وتُفِردُ صوتَهُ خلف السّجونِ

إذا الطَّاغوتُ أطفأ نارَ ساقي
رقصتُ -وكم رقصتُ- على جفوني

رأيت الجاهليةَ في نقَاها
صديقةَ عالمٍ بكْرٍ أمينِ

فضاءُ الرّوح أصبحَ معدنيّاً
وجفَّ الكونُ من ماءٍ معينِ

فهل نَرِدُ الكواكبَ عالياتٍ
وشعبُ الرّوح مفقوءُ العيونِ؟

حللتُ على خواء الشعر أهوي
كبرقِ سحابةِ اليأسِ الهتُونِ

وقلتُم: غابَ، حين حضرتُ فيكم
أرجّ دماغَ تمثال السّكونِ

أنا ابنُ دمٍ، جحيمُ الشّعر قلبي
متى أردِ القصيدةَ تعرفوني

((وماذا يبلغُ الشّعراءُ منِّي
وما بُلِّغْتُ حَدَّ الأربعينِ))؟( )

لبستُ حريرَ ميراثي صغيراً
وقلتُ لأمّةٍ بعدي: البسيني

مزجتُ بخمرة الرّؤيا جدودي
وقلتُ بأفقهم يعلو جبيني

فـ (طرفة) و(ابن هانئ) باركاني
و (قيسٌ) فضَّ لي ختمَ الجنون

و (ابن أبي ربيعة) قد سقَاني
بخيمة عشقِهِ عسلَ المجُون

نُميتُ لهم نَمَوْتُ بهم. أطلُّوا
على شرفاتهم كي تعرفوني

فإمَّا أنشأوا قيداً لصوتي
-انقلبتُ على رؤى من قيَّدوني

أنا بهم الرَّحيمُ، فإنْ تَوَلَّوا
قطعتُ الحَبْلَ، أو فليقطعوني

وما همْ بالمقدَّس، غير أني
لكم دينٌ ولي يا قومُ ديني

أضأتُ ظلام جمجمتي ببوحٍ
ولمّا جئتهم لمْ ينكروني

وأنكرني من الشعراء بعضٌ
كأنَّ عطورَهُمْ عفَنُ السنين

دعوني يا طحالبُ لستُ منكم
لتُحفَرَ حفرةُ الشّبهات دوني

رضيتُ بلَعْنَةِ القدّوس، لكنْ
أأنتمْ منهُ حتَّى تلعنوني

سقوفُ بيوتِكُمْ ذَهَبٌ حرامٌ
وجنّ الفقرِ يقفزُ من عيوني

ولستُ مُتأجراً بالفَقْرِ، لكنْ
إذا عاتبتُه لا تعذلوني

به غطَّى أبي جسدي وأغفى
على الظّلمات يرفع قصرَ طين

نساؤكُمُ لكم سنَدٌ لترقَوا
لأسفلِ سافلين... ولي حصوني

غشيتُمْ حانَةَ السُّلطان سرّاً
لتُسقوا خمرة الذّهب المهين

ج

فبادركمْ بظلمتِهِ طعاماً
وعاهدتُمْ على مجد الصّحون

تلوّثَ فيكمُ حتَّى أكفٌ
بها قذرٌ إذا ما صافحتمُوني

تقيّأتُ الزَّمان وما حواه
فيا أمّ العذارى... طهِّريني

أُعَهَّرُ إذ أبعثرُ نبع عشقي
وأُوردُ طامئَ الأنثى عيوني

فواكهُ شهوتي نضجَتْ وفاءتْ
على الحَرَّان من لوزٍ وتين

فكيف أعفُّ إمَّا لاح نهدٌ؟
ألاحَ لأتقيهِ ويتَّقيني؟

إذا شهقَ الظَّلامُ وضاء ردفٌ
أضعتُ على انسكابتِه يقيني

ونار العري تأكلُ خبزَ قلبي
فيا أمَّ العرايا... أطعميني

أطوف بغابةِ الأجساد، لبَّيكِ-
- يا قدسيّةَ الفرح اقبليني

وحيّاتٌ من الرَّغبات تسعى
تمصّ ربيعَ شيطاني اللَّعين

ذريني أنهبِ اللَّذَّاتِ حتَّى
إذا أُنهِكتُ منكِ، لتَنْهبيني

يرنُّ دمي بأجراس المراثي
ويُضحِكُ أمّةُ الموتى رنيني

فترقصُ فوق أنقاضي وتطوي
كتابَ الخَلْق في جسدي الحزينِ

وتُلقيني وأطفالي يتامى
بوادٍ غيرِ ذي زَرْعٍ، مُهينِ

هشمتُ لها الفؤادَ فكيفَ أوحَتْ
لأعداء المدى أن ينهشوني؟

بأيِّ غدٍ سنُدْفَنُ؟ أيّ رعبٍ
سيرضعُ من دماء الياسمينِ؟

ونحنُ ألا يحقُّ لمن تداعى
بأن يعلو على الأفق المبين؟

ولسنا نسلَ آلهةٍ كرام
لننسخَ نسل صلصالٍ وطين

بعريكِ سوف أُسْندُ ما تبقَّى
فيا جسرَ العراء... تحمَّليني

غريبُ الرّوح، صعلوكٌ شريدٌ
إذا وافيتُ مهدكِ، وطّنِيني

ورُدِّي بعضَ أشلائي لبعضي
وفي ملكوتِ نهديكِ اجمعيني

عَلِقْتُ الشّعرَ حتَّى صرتُ شعراً
على ألواحِ صدركِ اكتبيني

وإن طردوكِ مثلي -وهْوَ حُلمي-
فيا ذريّةَ العشقِ اتبعيني

ولستُ نبيَّكِ الآتي، ولكنْ
إذا ما شئتِ صلْباً، فاصلبيني

همُ قد أفرغُوا عينيكِ منِّي
كأنّي حتْفُهُم إن يُبْصِروني

أتتكِ قصيدتي بَوْحاً مُبيناً
وأعرفُ -مثلهُمْ- لن تفهميني

____________

حزيران 1993