رقص على أرض موحشة - علاء الدين عبد المولى
هل أصدّقُ بعدُ؟
يداكِ تديران في الرّوح طاحونةَ الرّعبِ،
مرتجفٌ أفقي عندما تعبرين كواكبَه
ونهارُكِ أغربُ ممَّا أظنُّ
دعي باب صوتي بلا وردةٍ
واستعيدي ضياعكِ
غطّي الهواء بما تستطيعين من حجرٍ وخريفٍ
تماديتِ في غِيِّكِ المتقلّبِ
فرّطتِ بالكلمات الَّتي خلقتْ
برج قلبك، فانساب منه الهديلْ
لم تقولي كما ينبغي أن يقول النَّهار لسكَّانهِ
والغناءُ لأحزانه
والمغنيّ لقيثاره مهملاً منذ موتٍ طويلْ
لم تردّي السّتارة عند هجوم الصَّقيع
على الياسمين الَّذي كان يرضى
بأن تمنحيه القليلْ
البساتينُ لم يكتملْ لوزها
والمقاعدُ ما امتلأتْ بالشّعاع
مداخلُها –بَعدُ- لم تكتشَفْ
لم نسمّ النَّباتات والحَجَرات الصَّغيرةَ
لم نستطعْ أن نردّ إلى الحبّ بعض الجميلْ..
هل أصدّقُ بعد؟
خيوليَ مكسورةٌ
وأنا ما عهدتُ خيوليَ مكسورةً
بعد أن ختَمَتْ كلَّ فِقْه الصَّهيلْ
كيف أرديتِ بعضي ببعضي؟
رفعتِ الكؤوسَ وما فَرغَتْ بعدُ
ما زال في قعرها صورٌ للقصيدةِ،
عند تأمُّلها، سوف أصنعُ من سحرها المستحيلْ.
والقصيدةُ من شأنها أن ترى فيكِ ما تجهلينَ
وأن تَدَعَ الأرضَ تحتي تميلْ
فلماذا كسرتِ مخيِّلتي
وتركتِ أباريقها الوثنيَّةَ فوق التُّراب تسيلْ؟
كيف كنتُ أقبِّلُ اسمَكِ؟
كيف تقصَّفْتُ من داخلي
وانحنيتُ على ركبتيكِ
أجمِّع بينهما أبداً مِنْ حريرٍ
وأبكي كصوتِ أذانٍ
تمرَّغ منشدُهُ بالعويلْ
هل أصدّقُ؟ لا..
كيف كنتُ أرمِّمُ يأسَك
أشتقُّ من عدمٍ قمراً ليديكِ
وأغسلُ معبَدَ روحكِ بالعنبر النّبويِّ
أفاجئُ جسمَك بالسّلسبيلْ
كنتُ أختارُ من مقعدي سهراً لنجومكِ
من جسدي مدخلاً لنسيمكِ
أُغرِقُ من سوسن الدَّمع واديَكِ الكربلائيّ
حيث تخيّم فيه القوافلُ بعد الحرائقِ،
يا بنتُ... ما أطولَ الدَّربَ
ما أوحشَ القلبَ، والزَّاد فينا قليلْ..
ألهذا خلعتِ المغنيّ، وهشَّمت مصباحَهُ؟
كيف يُكملُ ألواحَهُ والظَّلام ثقيلْ
كم يحبّكِ في وحشتي شاعرٌ لا يغادرني ظلُّه
كلَّما أدركَتْ حاسةُ الموت فيه العطورَ،
توَّرط بالزَّنجبيلْ..
كم يحبّكِ تفتتحين القلاعَ بعرسٍ جليلْ
وتعيدين نهر الكواكب
تطفو عليه زوارقُ أولِ خَلْقٍ
ترفّ على الغَمْرِ،
تنعتقين منَ الطّين
تنتقلين إلى فلَّة فوق صدر الإلهةِ
تولدُ من نفسها الكائناتُ الجديدَهْ
كم يحبّك هذا الغريبُ الَّذي تحملُ الأرضُ
جنَّتَهُ فوقَها في الصَّباحِ
وترفعُهُ – في الغروب- برمح القصيدَهْ
ليزوركِ في نجمةٍ تختفي فجأةً في الغيومِ
وتتركُ فوق النَّوافذ فضَّتها
يشتهيها، يقيمُ على نورها قلبَهُ،
ويشدّ على صمتها وتراً من حنانْ
نجمةٌ ضلَّ عنها بَنُوها
فقلتُ أقصُّ عليها أساطيرها
عندما لم يكنْ غيرها فوق هذا المكانْ
قلتُ أبدعُ من غدها ذكرياتي
أخِفُّ إليها كتاباً بأجنحةٍ لا تُرى
لأكرّس سرَّ حنيني إلى جوهرٍ
كان يُطْلِقُني في شذى المُطلقاتِ
أطلُّ على الأرض أنقى
أباركُ شطآنها
ومنازلَ عشَّاقها السَّاهرين على
جدولٍ من حكاياتٍ جنّيَةٍ طلعتْ مرّةً
من مرايا الصّلاةِ
هم الآن ينخطفون بسيرتها
ويُطيلون عُمْرَ قناديلهم في الزَّوايا
لعلَّ تعيدُ إليهم سحابةَ نورٍ قديمْ
كلَّما نعسَتْ بينهم ساعةٌ
غسلوها بأقداحهم
واستمرّوا بإنشاء معجزةٍ يستردّون فيها
طفولاتهم في المنامْ
وأنا كنتُ ألمح ذاتي
بينهم باحثاً عن سريري العتيقْ
يوم كنتِ على حافة النَّوم مفعمةً
بتراتيل أمٍّ تهدهدُ قَلْبي
وتغمرني بالجحيمْ
اخرجي الآنَ ساحرتي
فلقد حلَّ حولي –أكثر ممَّا أريدُ- الظَّلامْ
واسرقيني إلى كهفكِ المتفرِّدِ خَلْفَ الضّبابِ
لعلّي أرى مرّةً جنّةً لا تجفُّ
وفجراً بحَجْمِ طيوري
لعلَّ مجرَّةَ عطر تطوفُ
لأنطقَ –لا عَنْ هوى –إنّما عن هُيامْ
هو عهدٌ رمى كرةَ النَّار في العشب
وانقسَمَتْ كعبةُ الشّعر بين القبائلِ:
كلٌّ يريدُ امتلاكَ طقوس الكلامْ
وحده القلبُ سور تهشَّمَ
لكنّه ظلَّ يسندُ أحجارَهُ
بالنَّبات الأخيرِ على ظلِّه
ريثما تنتهي لعبةُ الانقسامْ...
... ... ...
هل أصدّق بعدُ؟
يدي رجعت وحدَها
بعدما سهرَتْ في يديكِ سَنَهْ
ومخيّلتي اشتعلتْ بخرائبها
بعدما سقطت بنيازكها
سكنَتْ عند بابكِ تنتظرُ الرَّقصةَ الممكنَهْ
سنةً كنتُ أهوي كبابٍ من الياسمينِ
على قدميكِ، سنَهْ
شاعراً لعنته السَّماءُ...
وأوحَتْ إلى الأرض كي تلعنَهْ...
... ... ...
لن أصدّق بعدُ نداءَ الحمامات، لا.
لن أعيدَ إلى امرأةٍ سرَّها بعدما انتهكَتْ معبدي
لن أسميّ غوايتَها
وسأسحبُ عن ركبتيها القصائدَ
أُخرِجُ من روحها جسدي
لن أكون لها ماضياً لا تقدّسُهُ
لن أعيدَ لها حاضراً تقتفيه إلى آخر الأبدِ
لن أودَعها، أو أشقّ عليها ثيابي
سأمضي إلى فتنةٍ لا تحدُّ
إلى شفقٍ منْ قصائدَ يعلو على شرفاتِ غيابي
لن أحطّم خلف خطاها الجرارَ
سأحملُ نهرَ نبيذي
وأصنعُ مائدةً من سرابي
وأواصلُ خدمةَ هذا الجمال
بشِعرٍ نذرْتُ قناديلَهُ لتضيءَ المحالْ
لن أقول لها ما يقالْ
عندما يهجرُ الشّعراء حبيباتهم
سوف تُمضي بقيّة أيَّامها متخفيةً برماد انتظاري
تُهيل اعترافاتها عبثاً
فوق قبر الرّياحِ
يبعثُرها النَّدم المرُّ ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشّمالْ
سوف أفرغُ داليتي من عناقيدها
وأُخلّي المكانَ المقدَّسَ من نمنماتِ شذاها
أذرُّ رسائلها لتوزّعها العاصفاتُ
على نائيات التّلالْ
هكذا تنتهي لعبةُ الثَّلج والنَّار
لا يتبقَّى سوى كرةٍ يتقاذفُها خائبانِ
على ملعبٍ من خيالْ..
... ... ...
لن أصدّقَ طيرَيْنِ في شجرٍ يسجدانْ
أو أصابعَ تعزفُ في آخر اللَّيل
حين يحنّ لصفوهما كائنانْ
لن أصدّق شِعراً يزخرفُ لي جنَّةً
كلَّما زرتُها عدتُ ممتلئاً بالدّخانْ
لن أصدّق باباً يطلّ على امرأةٍ
أنحني لجلالتها فأرى برزخاً فوقَهُ برزخانْ
لن أصدّق نهراً يقولُ اغتسلْ
أو جسوراً تنادي اتّصلْ
سأردّ إلى الشّعر وحشتَهُ
عائداً مع روحي إلى داخلي
لأتابع تشييد منفاي في غفلةٍ عن رؤى العالمينْ
وأغلّق بابي عليَّ،
وأقتل وحشَ الحنينْ..
_________
23/4/1999