في الطريق إلى... الذاكرة - علاء الدين عبد المولى
... زغاريدُ تعلو
حناجرُ تغزلُ معصيةَ الأغنياتِ
عن العشقِ، يأتي الصَّدى كائنا
يتجمَّع في شفتيه نداءُ النَّدى
هنا أقفُ الآن/
كيف أتابعُ هذا الدَّمار إلى آخرِهْ؟
وكيف أهّيءُ جِلْدَ المكانِ
لكيْ يتأهّب للعاصفةْ؟
أنا، منذ قَطْفِ ثمار الخليقةِ،
حتّى سقوطِ القنابلِ في عشبةٍ،
وأنا العاشقُ المتخمّرُ في كلّ جرَّةٍ عرسٍ
قرأتُ، وما زلتُ أقرأُ في لغةٍ لا تراها العيونُ
وأخفي وراءَ طلولي رمادَ الخلود/ خلودَ الرَّمادْ
وأهدمُ ماكنتُ أبني
على عتباتٍ تغيب بدمع البخورِ
أصلّي ليحفظ ربُّ الكوارثِ هذي البلادْ
بلادٌ رَمتْني على حائطٍ يتداعى
بلادٌ تسمَّى / وأخرى سرابْ
بلادٌ بخارٌ/ بلادٌ خرابْ...
على وترٍ سالَ خمرُ بكائي
فشُدّي عليه وشُدِّي عليَّ
لأفتحَ صدري تراثاً من الاختناقِ
يطيب له الرّقصُ في غبشِ الحلمِ...
حلمٌ قريبٌ/ بعيدُ
ويخرج شكلُكِ مبتهجاً بالعناقِ
غريبٌ/ جديدُ
وكنت تدلّيتُ شعباً
من القمحِ يخبز فيَّ رغيفاً من الشّبُهاتِ
ويمتصّني جسدُ امرأةٍ نذَرَتْ خصرَها
لهبوبِ الأناشيدِ من جبلِ الاحتراقِ
أأنتِ تعدينَ حزني
وتنتخبين بكفَّيكِ بُعْدَ سمائي؟
لكِ الأرضِ في قدميّ تذوبُ
لك الذَّوَبانُ الجحيميُّ في القلبِ ماءً من اللَّوزِ
حتّى تضائي بمائي
أأنتِ رخامٌ عليهِ تيمَّمتُ حين خسرتُ الينابيعِ
ثم وقفتُ وصلَّى الزّمان ورائي؟...
أصالحُ فيكِ خصومةَ قلبي مع الكونِ...
كيف تسيرُ إليكِ لغاتي؟
أتدخلُ من بابِ وردٍ
إذا قرعتْهُ يدي أشرَقَتْ قمراً من نباتِ؟
أتدخلُ، في قدميها تباشيرُ نهرٍ
ومدٌّ من الطّيبّاتِ؟
وللشّعرِ باصرتي، منذُ / جلجامش المتجمّعِ
في غابةِ الخوفِ يبحثُ عن عشبةٍ لخلودِ الحياةِ
وحتّى بكاء المغنّين في صدر قيثارةٍ
رفَعَتْ زرقةَ الشّرفاتِ
منازلُ تعلو، منازلُ عشقٍ، منازلُ برقٍ،
منازلُ شفّتْ نوافذُها
كاد يخرجُ من ياسمين السّطوح دمُ العطرِ
يسقي ظلامَ الجهاتِ
ومازالَ في بئر ذاكرتي.../
... الصَّيفُ...
مذ كنتُ أحملُ مدرستي في صباح الحقيبةِ
أنثر قلبي
وأدهش بالصّبحِ يطلقُ عمَّاله وتلاميذَه
خلف جمعٍ من السّاحراتِ
وحيداً تغادرني زينةُ الفتياتِ
وحين تغيب وراء الزّحام ووهم اليقينِ
أفاجأُ بالياسمينِ
تدلَّى على حائطٍ يتدلَّى على جسدي
أتنفّسه بجميع حواسي: تشمُّ عيوني،
وأبصره بيديَّ، وأزرعُهُ في رئاتي...
... ... ...
لذاكرتي الآن ينبوعها المتواصلُ/
هل أنتِ تلك الغزالةُ في طرقاتي إلى المدرَسَةْ؟
وهل أنت معجزة الياسمينِ
أم العمرُ شابَ وشابَتْ به معجزاتي؟
فها أنذا غرفةٌ عمّرتْها الرّياحُ
أنا كتبٌ في الصَّناديق نائمةٌ
لا يحلّ عليها صباحُ
أشاركُ طفلي بألعابه،
أختفي بين أثوابه،
ثم أصرخ بالموتِ:
/ سامحتُكَ الآن يا والدي، كيفَ غادرتني/..
وأنا لم أقبّلْ جبينَكَ بعدُ؟
لتبقَ بعيداً،
فما أنتَ من يتراجعُ عن موته
حين أطفالُكَ الضَّائعون
تراجع فيهم كلامُ الحياةِ/
... ... ...
هنا الذّاكرهْ
تهبّ من الموتِ أشباحُها
تلبسُ الجثث العاطفيّةُ ضوءَ القناديل
تهدمُ شاهدةً
وتهدّ السّياجَ الَّذي زنَّرَ المقبرهْ
وأخرجُ فيمن سينشُره الحبُّ تحت لواء الشُّموسِ
وكلٌّ يفتّشُ عن نفسهِ، وأنا عن نفوسي
أما قال جدّي امرؤُ القيسِ يوماً:
(( ولو أنَّها نفسٌ تموتُ جميعةً
ولكنَّها نفسٌ تَسَاقَطُ أنفُساً))؟...
... ... ...
هنا الذّاكرهْ
تطيِّرُ في جسدي نحلَها فيئز الحنينُ لوجهٍ
من الشّرقِ يطلعُ، عيناهُ: كم قيلَ في
((نخل حزنهما ساعةَ السّحَرِ))
وخدّاهُ: قطبان أَعْقِدُ بينهما قمري
أأنتِ الّتي أنتِ كنتِ
أيا امرأةُ شقَّتْ الصَّدرَ منّي وأخرجتِ القلبَ منه
لتطرد عنه جيوشَ الوساوسِ،
ثمّ تعيد له سيرة البشرِ....
_________
20/أيار/1995