مديح الخواء - علاء الدين عبد المولى

10/ نيسان/1991- 28/ تموز/1991‏
ليس هذا ربيعَ المزامير...‏
يمتلىءُ القلبُ بالشّيب،‏
والحب يخفي جواهره خلف سور بعيد‏
آه يا خمرةً صهلت في عروق المساءْ‏
يا نداءً خفيَّ النداءْ‏
أيّ أنشودةٍ تتوكأ حنجرتي بؤسها‏
عندما يهجُرُ الطّحلب العربيّ الغناءْ‏
وتشيّع قيثارتي شمسها‏
ولمن سأزفّ البشارهْ‏
حين يبدأ برج النّبوةِ في داخلي‏
انهيارَهْ؟‏
وجيوشٌ من الحزن تنشرُ أعلامَها في الدماءْ‏
ليس هذا ربيعَ المزامير، هذا مديحُ الخواءْ‏
هل رأيتُ حشودَ العصافير تخرجُ من تحت إبطيَّ.‏
تملأ صمت الهواءْ؟‏
وأنا سابحٌ خلفَها‏
خالقٌ صيفها والشّتاءْ‏
من إذاً أطلق النّارَ منْ‏
وأضاف نبيّاً جديداً لمقبرة الشّهداءْ؟‏
... ... ...‏
تلك أغنيتي كالثَّعابين تزحفُ،‏
إذ يهطل السّمُّ من غيمة السِّحرِ،‏
لي أوَّلُ الأرضِ، طيّرتُ فيها طيوراً وعلَّمتها‏
كيف بالحُبِّ تَسقطُ فوق الجليدْ‏
هي أرضُ الأرامل، والثّكلُ أشعل مصباحَهُ تحت شرفتها‏
فلتشرَّدْ عذارى المكان وراء السَّراب الشَّريدْ‏
قبل أن تجرف الريحُ مملكةَ الوردِ،‏
قبل انقطاعِ الينابيعِ، قبل حلول الصَّديدْ‏
صدىء الرّوحُ؟ أم معدنُ الأفق أفرغَ فينا‏
شظاياه كي نتنفّسَ عطرَ الحديدْ؟‏
غفلتْ عن مواسمنا عينُكَ العسليّةُ يا راعيَ النَّحل‏
لم يبقَ في شجر التّينِ بعضٌ من الورقاتِ‏
نغطي به عورةً أو نحوكُ به عَـلَماً للشّهيدْ‏
ولنا في ضمير الغروب حكاياتنا‏
ولنا ما يعيدُ السّماءَ إلى حضنها السّاحليِّ، لنا‏
ما يعيدُ الكلام إلى فطرةِ الكائناتِ، لنا ما يعيدْ‏
كلَّ وقتٍ لسرٍّ جديدْ...‏
قابضون على جمرة الرَّعشة الأبديّة، لكنَّنا‏
أمّةٌ تتآكلُ من داخلٍ‏
كالمغنّي وقد هجرتْهُ فروضُ النَّشيدْ.‏
أيّ جناتنا تنحني عندما يعبرُ العاشقون صراطَ الجحيمِ،‏
ونارٌ تولول: هل من مزيدْ؟...‏
هو كونٌ من الشِّعر ننحتُ تمثاله‏
للبصيرة فيه فضاءٌ تهاوى، وتزرعُ أشباحُنا‏
بذرةَ الرّعب في الكلماتْ.‏
خاوياً ينبتُ الزّرعُ، مشتملاً بعباءةِ شوكٍ.‏
يغطِّي نهودَ النّباتْ‏
هو كونٌ على الفحمِ يُشوى، رأيتُ معابدَهُ‏
تتشقّق جدرانها ثم تهوي هياكلها،‏
فتضيء نجومُ المعادن صمتَ المكانْ‏
أذّنَ الذّئبُ فاستأنسَ الحَمَلُ البشريُّ برعبِ الأذانْ‏
منْ عقيمٌ ليزداد عقْماً؟ ومَنْ شاردٌ وقتُهُ‏
ليجمّعَ رملَ الزمانْ؟‏
يا بروجَ التألقِ، آنَ لبلّور زهوكِ أن يتكسَّرَ‏
فالأفعوانُ الظَّلاميُّ أفرخَ في قمحنا‏
وتمدَّدَ في جرحنا الأفعوانْ‏
ليس هذا معادَ البذار، ولنْ‏
يتخفَّى وراء السّنابل حب، ولنْ‏
يحصدَ الفجرُ غيرَ الزّؤانْ‏
فلتنَمْ في الخريفِ العناقيدُ، وليُكسَرِ العاشقانْ‏
هو كونٌ على الفحم وراء الدّخانِ وراء الدخانْ...‏
هو كونٌ على الفحم يُشوى،‏
فلا مطرٌ بلَّهُ،‏
ليس إلا الدخان وراء الدخان‏
وراء الدخانْ ...‏
... ... ...‏
كلّ مرثيةِ الخَلْق أحشدُها الآن،‏
كلَّ المآتم أبكي لها‏
أنا بعضُ هلام تسرَّبَ من جسدِ الأنبياءْ‏
كنتُ أحشو عروقي زهوراً أقدّمها للإله هديَّهْ‏
فبأيّ الشَّواهد فوجئتُ بعد ضمور الدّماءْ؟‏
هو كونٌ تنزّ خلاياه قيحاً،‏
مأتمي واضحٌ سيّدَ البركاتِ، وميراثُ قلبي سليلُ الهباءْ‏
وانتميتُ إلى الجنّة الحجريّهْ‏
ليس هذا اختناقاً من الكلماتِ،‏
هو العَدمُ المتجذّرُ، قُمِّصَ في هيئةٍ بشريّهْ‏
ليس هذا الخواءُ جحيماً، ولكنّه جنّةُ الشعراءْ‏
لعنةُ الغيبِ تسرقُهُمْ من خيولهم الصّاهلهْ‏
هم يتيهون في صخرة العدم النّازلَهْ‏
في المهاوى، ويستفردون بوحدتهم‏
مستنيرين في ظُلَمٍ‏
ينسجون صدى الصّرخة المهمَلَهْ‏
هم يد الغيمِ تعبر فوق الحقول لتنهض سنبلةً سنبلهْ‏
هم يدٌ تسندُ الكونَ، تنشلُه من دم المهزلَهْ‏
هو كون تفسّخَ واستوطن القحطُ في ركبتيهِ‏
أي شعر سيبكي عليهِ؟‏
أي رقصة بحرٍ تخاصره‏
وتماثيلُه الخشبيَّة تطفو على الماءِ؟‏
أيّ الشواطىء أدنى اليهِ؟‏
شاطىءُ الحرب أم شاطىء الآلهة؟‏
إنه الكون‏
ما زال فكرتنا التّائههْ...‏