تصدعات روح المغني - علاء الدين عبد المولى

حزيران/ 1993‏
يلتوي الرّوحُ مثلَ قضيب مُحمَّى‏
إلى أين أَمضي بما فاض منّي؟‏
ومن يحمل الشّعَر عنّي؟‏
يعلّمني اليأسُ ألا أقول سوى اليأسِ...‏
هذا مهبُّ الكلامِ تسرّبَ منهُ دمٌ كنتُ شريانَهُ.‏
ليتَ عشبَ الزَّمان تجمَّد في قَدَم الطفلِ‏
ليت الطفولة مرآتيَ الأبديَّةُ‏
لا يبلغُ القلبُ شيباً‏
ولا يشهدُ الرّوحُ حرباً‏
ولا يهدمُ الحبُّ أركانَهُ.‏
ليتني أتدفقُ من آخرِ الأفقِ‏
كالقمرِ المتكسرِ تثقبُهُ لوعةُ الكونِ‏
أو يتشردُ خلف الغمامِ‏
يضيِّع عنوانَهُ.‏
قمري في الخلايا يضيءُ عذاب الفصول الولودِ،‏
وما كنت نسغَ الربيع،‏
ولا الصيفُ أَطلقَ في جسدي نهرَهُ الكرزيَّ،‏
وما أخصبَ الحلمُ أغصانَهُ.‏
قمري في الخلايا يدلُّ على صُفرةٍ أتآكل بين مكائدِها،‏
عندما هارباً كنتُ من ولهٍ بانبلاجِ الخريف إلى‏
عبقٍ ضائعٍ من عرائس تمّوز،‏
أقرأُ شعري على ملأ من ملائكةٍ‏
غبَّ من نورها جسدي جلَّ ميقاتُه القزحيُّ‏
وبارك- منْ عرَف الحبَّ- ألوانَهُ.‏
ليته زمنٌ راجعٌ من خوابٍ‏
تشدّ خيوطَ الكهولة للشَّهواتِ‏
وتُلبِسُ هيكليَ المتصدّعَ بنيانَهُ‏
لا أرى اليوم من يعصمُ الخلقَ من رغبةِ النَّفي والاحتضارِ،‏
فقد ضاعفَ الموتُ طوفانَهُ.‏
والتوى الروحُ خلفَ السّجون‏
وزوجتِ الأرضُ من عدمٍ‏
عندما عانقَ الكونُ قاتلَهُ‏
وطوى البحرُ شطآنَهُ‏
صار لليأس حجمٌ يُحَسُّ‏
فمنْ يحملُ اليأسَ عن كتفي؟‏
صار وجهٌ له... يتطاولُ يلبس أقنعةً ما يشاءُ‏
وأدخلتِ الكائناتُ إلى معبد نوويٍّ‏
يباركه خالق الكيمياءِ‏
تؤذّن فيه المعادنُ،‏
يرتعشُ الخَلْقُ من لذَّة الصَّهْرِ،‏
يضغط زرٌّ على القلبِ،‏
تنفجرُ النَّبضةُ البشريّةُ بالحكمة العبثيَّهْ‏
يلعن الطفلُ والدَهُ‏
والمريدُ المغيَّبُ مرشدَهُ‏
حيث للموتِ شكل يُرى‏
صار إيقاعُه يَشترى‏
من طبول جهنَّم تقرعُ في فجرنا المتوارَثِ،‏
توقظ أعضاءنا من هلام التأملِ‏
والاديولوجيا المريضةِ بالانكسارْ.‏
ثم... من يُنْهضُ الوقتَ من لحظةٍ حجّرَ العقمُ عقربَها‏
والغزالةُ فيها استوت سلحفاةً تدثرها خيمةٌ‏
من غبارْ؟.‏
كان لي في المزاميرِ صوتٌ يرقِّصُ خصَر النَّباتِ‏
ويُجري دموعَ الاناث الولوداتِ...‏
من يُنهضُ الوقت من عقمِهِ‏
قبل أن يتزوَجَ عضوَ الدَّمارْ؟‏
لا أغني لأطرب هذا الرَّحيلَ السَّديميَّّ في الصَّحراءِ،‏
ولا لأقوّسَ سَهْمَ البصيرةِ،‏
لا لأغازلَ قبراً تفسَّخَ من عفنٍ...‏
إنَّما لشموخ انهياري أَغنيِّ‏
ليس للسرِّ وقتٌ لنتلو مديحاً لسلطانِنا الذهبيّْ‏
فاهبطي في دمي يا فضيحهْ‏
حصد الفقرُ هامتنا وهي تركع راضيةً مستريحَهْ‏
في مقام الوليّْ.‏
ليس للساقطين مدارٌ،‏
وقد ذهبت حسرةً أنفُسُ الطَّالعين من الحزنِ،‏
كلٌّ يغني نبيّاً‏
ويستنزلون غمامَ الأسيدِ على الشَّجر العربيّْ.‏
والسَّماءْ‏
والذي سيّرَ الأرضَ نحو الخواءْ‏
والذي نام ناطوُره عن مواسمنا‏
لأعدِّدُ أسماءَ من سقطوا عاهراً بعد عاهرْ.‏
/وأنا أستميح القصيدةَ عذراً إذا كشفت فرجها اللُّغويّْ‏
بعد أن أحصنتُه طويلاً فما قدَّستها الحناجرْ/‏
... ... ...‏
لعنتي في الزَّمان إلى حلقه‏
يتقيؤنا شاعراً شاعراً وشهيداً شهيداً‏
وشعباً من الفحم تُنحَتُ منه المنابرْ.‏
لعنتي في تراتيل من يتمدَّدُ خلفَ سياجٍ يُصَهْيِنُ زَهْرَ الصَّباحْ‏
لعنتي في صباح يقود الطفولةْ‏
نحو مدرسةٍ هرمَ الدَّمُ وهو يرمّمُ هيكلها المستباحْ.‏
لعنتي في المخابرْ‏
حين تمسخُ ذاكرةَ الجيلِ‏
تحشو بياضَ الأناجيلِ بالجنَّةِ المستحيلهْ‏
نحن نسلُ التَّمعدُنِ والانبطاحْ‏
نحن نسلُ الميوعةِ والانبهارِ بمرأى الدَّم المتدفّقِ‏
في سرَّة الأمة النتنهْ‏
لعنتي في مرايا رأينا غد الرّوحِ فيها‏
يصاهرُ مستنقعاً من كهولَهْ‏
لعنتي في السّلالة تنسلُّ من سلَّةِ السَّلِّ ساريةً في‏
سعال البطولهْ.‏
لعنتي في البطولة حتى النّخاعِ...‏
لنا آخرَ العمرِ تلويحةٌ عند قبرِ الوداعِ،‏
نشيّع فيها توابيتنا الملكيهْ‏
لعنتي في هواء يصوِّبُ طلقته‏
باتجاه نوافذَ يمتصّها الانتظارُ‏
فيسقطُ في الأرض ظلٌّ يخبىء طفلاً بفكرته المؤمنَهْ‏
لعنتي في الأيادي الَّتي تستبيحُ الجهادْ‏
يستوي عندهُمْ من يبيعُ ومن يشتري‏
بل رأيتُ الأيادي تعانق من باعَ فجر البلادْ‏
في كتاب يحوّلُ سيرتَنا حكمةً للطوافْ‏
حولَ وهم يشكّلنا بمشيئته‏
فنخاف به، ونخاف له، وعليه نخافْ.‏
لعنتي في الشِّعار الذي يضعُ الكونَ‏
في جَيبهِ الجاهليّْ.‏
/وأنا أستميحُ القصيدةَ عذراً إذا كشفتْ فرجها اللغويّْ/‏
... ... ...‏
شيَّخَ اليأسُ... يا طفليَ العسليَّ تقدَّمْ عليَّ،‏
وخذْ شبحي المتكسّرَ مثلَ سنابل‏
داست عليها الخيولْ.‏
احصد المتبقيِّ من القلب يا سومريَّ الفصولْ‏
يابسٌ زهري‏
يابسٌ نَهري‏
يابسٌ كلّ ما قلتُ أو سأقولْ.‏
لك أركعُ يا جسدي المتجدّدَ‏
إذ أتهجّدُ في كنفِ الزَّرعِ‏
حين تمدّ يديك إليه.‏
تستعيدُ النباتاتُ دورَتَها‏
والقبائلُ رقصتها‏
وتفيض السّيولْ.‏
ها أنا هاربٌ من مقاصير جوعي‏
إلى قمحةٍ في يديكْ‏
غَذِّني فأنا ما أزالُ أدلّ الحياةَ عليكْ‏
يا بنيّْ،‏
مَنْ يدلُّ الحياةَ عَليّْ؟‏