الغائبــة - علاء الدين عبد المولى

أَجِدُ الَّذي يدنو كمن ينأى،
ومَنْ يعلو كمَنْ يتلو حكايتَهُ على الأمواتِ...
عشّاقٌ يدقّون الخيامْ
أو يقلبون الأرضَ بحثاً عن صدى عصفورةٍ
رحلتْ فماتَت خلفها الفتياتُ
وأسودَّ الحَمامْ
أمضي مع الآتين من عرس إلى ليلٍ تهبُّ رياحهُ
فتساقطُ الأعضاء قشرتَها
وتتّحدُ الدّموع مع الحَجرْ
عودي بنا عصفورةَ الأسرار
ما هذا الهواءُ لتُدفَني فيه.
نحبّكِ، نعبدُ الفَجْرَ المشيِّدَ في جناحكِ
إذ يطيبُ له المقامْ
ماذا تركتِ هنا؟
...
هُنا لم يبق من ضوءٍ سوى ضوءِ القبيلةِ
حول قهوتها تدوُرُ، فتجهشُ الجمراتُ،
يأتي دورُ فنجاني، وفنجاني انكسَرْ
قطَّعت قلبي كالشّعاع على انكسار السَّاهرينْ
ثقَّبتُهُ غربالَ يأس لا يهرِّبُ غيرَ أشباح الظّلامْ
مسكونةٌ هذي الخيامُ بلؤلؤ الأرواح
بالمسك المُنيرِ
برقصةِ المهباجِ
هذي مُغرياتُ العشق يا عصفورةَ السَّفر الَّتي
تلتمّ حول سمائها صلواتُنا
عودي إلى أصواتنا
عودي إلى أمواتنا
أهدابنا التصقتْ بها حشراتُ صيف لا تُرى
أهدابنا تبني عليها النّار أقواسَ الشَّررْ
عودي، لنرجعَ مرةً أخرى، بَشَرْ.
هَدَلَ الحمامُ مبكّراً هذا الصَّباحْ
والقلبُ مصلوبٌ على خشب السَّريرْ
من حولهِ دارتْ عراءاتُ الحريرْ
نادى، وغطَّ جناحَهُ في دفء نعناع يذكّرني بنهدكِ...
ثم أطلقهُ على الأفق الصَّغيرْ
أنتِ انحناءُ الزَّهر في شرفات ذاكرتي
تعاليْ مرةً أخرى من الماضي الذي
يأتي غداً
واستقبلي بَثَّ القصيدةِ من دمي
قولي هي اللّغةُ الطَّريَّةُ طرّزتْ أجسادَنا
هي جنّةٌ صغرى ستسحبنا بعيداً عن جحيم
دقائق البستان...
قُولي
هذا الحمامُ نذيرنا
وتأبَّطي قلبي لأعشقَ مرّةً أخرى
حقولي
تابَتْ عن الفردوس فاضطجعي بيأس سريريَ العاري
لنشرَبَ قهوةً أو ننتهي في قبلةٍ تمحو
كلامَ اللّيل في فجرٍ جميلٍ
لا يستطيعُ قميصُ هذا الفجرِ أن ينشقَّ أكثرْ
الضّوءُ يسقطُ في كرات الثَّلج
باردةٌ يداكِ
وليسَ من أنثى سواك
ستبعثين صلاتَي الوثنيةَ التَّرتيلِ من
أعماقها الأولى لتُنْشَرْ
هل تسمعين الطَّائرَ السّريَّ يبكي فوق سطح الثَّلج
ناديهِ
وأغريهِ بما في القلب من لوز وسكَّرْ
هو منذ ساعاتٍ يرفُّ
يكاد يهوي جثّةٍ فوق الغصون خُذيه
غنِّي
من أجله عن مَشْرقِ الشَّمس المقدَّسِ،
طمئنيه، واطمئنِّي
أنِّي نشيدُ الجمر بينكما، وأنِّي
متدثّرٌ بلحافِ ذاكرةٍ تخبّئُ كنَزها
للقادمين من الفضاءْ
غنّي لهذا الطائر المكسور
يا أنثى تخيطُ لعُري أشيائي
حريراً من غناءْ
نجمُ الحنين يُذيب في عينيَّ عنقودَ الضّياءْ
كم مُرَّةٌ ساعاتُ قلبي وهي تَرجعُ للوراءْ
والشَّاعر العاري من الأجراسِ،
يرفع عنْقَهُ ليطلَّ خلف سياج معبدكِ البعيدْ
ويموتَ في قبر النَّشيدْ...
أخرَّتُ نَزْفي كي يمرَّ القلبُ نحو يديكِ
ناولتُ الهواءَ فراشيَ الحجريَّ
سلّمْتُ المهاوي نصفَ عمري كي أشمَّ عرائس اللَّيمون
ترقص قرب ضلعي...
-لسْنَ من ضلعي، ولكن هكذا تلدُ الحياةْ
قلتُ: المساءُ يطولُ، والكلمات تَقصُرُ،
أنتِ أقرَبُ من يدي ليدي ولكنّي بعيد... واللّغاتْ
سجنٌ ثقبْتُ سماءه لأهرِّبَ الدنيا إليِّ.
يشدُّني الجلاَّدُ من قدمي فأرمي معجمي في النَّار
أطمُر في غد الرّؤيا رمادَ الذّكرياتْ
غيبيَ وعُودي. سوف يكسر حارسُ الغابات ألواحَ الرُّواةْ
عبروا أقاموا حول معبده طوافاً يُطعمُ العشَّاقَ
خبزَ العاشقاتْ
عودي أؤخّرُ بَرْقَ هذا العمر حتَّى تعبري فينا،
أصدّقُ كلَّ ما قالوه عن أعراس دمعتنا ولكن
من يصدّقني إذا اقترب الغُزاةْ؟
أنا مَنْ لهُ في ظِلِّهِ عبرٌ، وكنتُ أغيبُ في ملكوت ربّي...
فجأةً كسر الإلهُ جليدهُ فوقي
فأطفئتِ الشّموعُ، وجفَّ حلقي بالصَّلاةْ
لم يبقَ من هذا المسار سوى انهياري...
أيّ كنزٍ سوف يُقطفُ من ثريَّا العمرِ؟
أيةُ شهوةٍ ستفيضُ ينبوعاً
وأيّ الباقياتْ
تبقى، وهذا العمرُ سلّةُ مهملات...
هذا الحمامُ سماؤنا الزَّرقاءُ
شرّدَها ابتهالُ الضَّائعين، فجمِّعي
أعضاءها، وتقبَّلي شغفي بها
وأنا أضمُّ عليَّ صدركِ
حين تنسحبين خلفَ ستارةِ الشَّهواتِ...
اتّخذي معي
رُكْناً على حجرٍ سنُجْلِسُ فوقَهُ جسدَيْنِ
يلتصقان يلتقطان ناراً من مَهبِّ الأضلعِ
عودي،
وإنْ أغلقتُ دونكِ أيَّ بابٍ، فارجعي...
____________
22/2/1993