كلام تحت شرفتنا الأخيرة - علاء الدين عبد المولى

أيار- حزيران/1995‏
خفِّفِ الوطأَ، فهذي أمَّةٌ من جثث‏
نفترشُ الآن بقاياها الأخيرهْ‏
كيف أطفأنا بريقَ الماء في حلم الصَّحارى؟‏
كيف أرخينا عباءاتِ النّبوّات عن الأشجار؟‏
هشّمنا المزاميرَ‏
وعلَّقنا المسامير على أرواحنا الهشَّةِ‏
ألقينا المعاذيرَ‏
أقمنا رقصة التّأبين في عيد انهياراتٍ...‏
جنَحْنا نحن والأطفال والأبطال والموَّال‏
للسّلِّ وللسِّلعةِ...‏
لم نُرجِعْ لشيخ الوطن الأعمى عكاكيزَ البصيرَهْ‏
شُلَّت الأيدي، وجفّتْ صحفُ الورد،‏
فمن أيّ عبيرٍ ينسجُ الشّعرُ حريرهْ؟‏
نستعير الآن ذكرانا ونسري في رياح البحر،‏
والبوصلةُ الشَّعبيَّةُ اهتزّت‏
وملاّح المدى أغلق شطآن النَّدى باع الجزيرهْ‏
نشهد الآن أفول الرّوح،‏
هذا أفقٌ غادره الحُبُّ، وغدَّارٌ هو الحبُّ الَّذي‏
يُسْلِم للوعد الخريفيّ مصيرَهْ‏
عربٌ في جبلٍ؟‏
أم جبلٌ من عربٍ غابتْ بهم فوضى حدود ووجود‏
تسكب الظّلمةُ فيهم ظلَّها...‏
ليس ربيعاً أو شتاءً،‏
ضيّع الوقتُ شهورَهْ‏
ليس إرثاً من صفاءٍ يحملُ الرّوح مراياه‏
وليست أمّةً قد أُخرجتْ للنّاسِ،‏
بل أخرجها النَّاسُ‏
وهذا هامشُ الزَّهر تهشَّمْ‏
ومناراتُ الرَّحيل البكر تشكيلُ فراغٍ‏
وضلالاتُ رؤى‏
ليس انتقالاً من أغاني الموت في جنَّاز مريَمْ‏
إنَّه الذل المجسَّمْ‏
صنماً أو لوحةً، أو منزلاً فوق رؤوسِ الخُبزْ يُهْدَمْ‏
هكذا أمّتنا ظَهْرٌ لذئب الرّيح‏
تنهارُ عليها مئذنات الماءِ‏
هذا آخرُ العهد بنا‏
آخرُ عنوان لنا‏
في المخاض الحجريّْ‏
بطنُ أنثى يتورَّمْ‏
ثمّ تلقي سربَ أطفالٍ تماهَوا في عدوّ‏
ذاك عيناه على عيدٍ تلاشى‏
تلك كفَّاها تشدّان الفَراشا‏
ها هنا يمضغ طفلٌ علكةَ الوهم‏
هنا بنتٌ تغني وهي تبني لغد الحزنِ فِراشا‏
يا طفولاتٍ توارَتْ خلفنا‏
آباؤكم ذاكرةٌ محنيَّةُ الظَّهر‏
وشحّاذون في بوّابة الفكر‏
لصوصٌ ونصوصٌ‏
ونبيٌّ باع للرّوم ظهورَهْ...‏
عالَمٌ آخر؟ أمْ آخرُ عالَمْ؟‏
هكذا أسئلتي تنمو، وفي عينيَّ آدمْ‏
يتعرّى من قناع الحلْم‏
يسعى في سراديب من الأحفادِ...‏
لا صُلبُكَ منذورٌ لنورِ الأنبياءْ‏
لا، ولا طينُكَ جمرُ الشّعراءْ‏
منذ ميلادكَ في الجنّةِ حتّى الانهيارِ الفذِّ في أرض خلاءْ‏
والدّمُ الكونيّ ما كفَّ عن الدَّفْقِ وخَنْقِ الكائناتْ‏
... ... ...‏
أنتَ يا شاعرُ تَسْتقرىءُ هذا الفَجْرَ/‏
ما تقرأُ غير الظّلماتْ؟...‏
... لغتي دارَتْ على أحياءِ ميراثي:‏
طلولٌ، وعماماتٌ، جوارٍ وخلافاتٌ،‏
دهاليزُ انحطاطٍ ونهوضٍ،‏
واحتلالاتٌ، وثوراتٌ على خيل غبارٍ‏
وطلولٌ تستعادْ‏
لغتي لم تلتصقْ بالحَشْرِ والميلادِ في أرضٍ‏
نمَتْ في جوفها مملكةُ القتلى وأشلاءُ بلادْ‏
لغتي عرّيتُها من نجمة الرَّقص‏
وفصّلتُ لها من جلدِ أطفاليَ أعلامَ الحدادْ‏
صُورُ الموتى على مخدعنا الخالق تطغى‏
عندما نسترقُ التفّاح من أشجار عُريِ الكائناتْ‏
ليس تفّاحاً ولامعرفةً ما نقطفُ اليومَ،‏
فقدْ جفَّتْ نهودُ الفلسفاتْ‏
وانتهى التّاريخ في سلَّة (أمريكا)‏
عناقيدَ شعوبٍ وقبائلْ‏
مالت الأرضُ، وبرج اللّه مائلْ.‏
... ... ...‏
شاعرٌ يجترّ سورياليّةَ الرُّؤيا‏
ويستنطقُ أشباحاً مضَتْ في جُعْبَةِ النِّسيان والأديانِ.‏
هل تمشي القصيدهْ‏
وحدَها؟ يكتبُها أم تكتبُ الشَّاعرَ؟‏
ماذا لو رمَتْ ثوبَ القوافي‏
بينما تستعمرُ الأمطارُ جمهوريَّةَ الرّيح السَّعيدهْ‏
والرعايا لغةٌ في خيط مملوكٍ تمطَّى ملكاً‏
في حُفرةِ الخُلدْ البعيدهْ...‏
آه يا شعبيَ‏
يا أطمار عيدانٍ غزَتْها النَّارُ‏
في ليل القوافلْ‏
أرضكَ الأولى استوتْ أثداؤُها تيناً ولوزاً وتوابلْ‏
أنضجَتْ أرحامُها صيفَ سنابلْ‏
فلمن بعتَ روابيها؟‏
وأجرَّتَ خوابيها لمنْ لا يتقنُ السُّكْرَ‏
ولا يحفظ للخمرة ودّاً؟‏
عُدْ إلى جَدّتكَ الأولى الَّتي تُخفي‏
نشيدَ الجوز واللَّوز وتختارُ من الأيَّام‏
ما يمتدّ في القلب إلى آخرِ عمرٍ عربيّْ‏
عُدْ إلىجدتكَ الأرضِ وسلِّمْ- أيُّها الشَّعبُ-‏
عليها وعليّْ...‏
واحتملْ هَجْرَ خيام البدوِ‏
فاللَّحظةَ تعلو زهرةُ القهوة في أحداقِ أنثى‏
تملكُ الرّوحَ، تعيدُ الفجرَ للَّيل،‏
تصبُّ القمرَ العالي على مهد الصَّبيّْ‏
أنا في موجة عينيها سأبني سفني‏
أرتادُ شطآناً، وأطوي الأفقَ المكسورَ فيّْ‏
ذاك يا أنثايَ يا أمَّ البراعمْ‏
جسدُ الأمةِ مقطوعاً من الشَّجرةِ،‏
لا أهل يلمّون مساءاتي،‏
ولا عرس لايقاع الخواتمْ‏
لا، ولا طائرُ ماء في دمي يلقي رسالات السَّماءْ‏
أنتهي في فصل شمعٍ ذائبٍ خلفَ البكاءْ‏
لا يراني غيرُ أطفالٍ وأرضٍ تشلح الطّينَ وتنسى الملحَ...‏
هذا الدمُ ماءْ‏
والملوكُ اختلفوا في لعبة الأنسابِ:‏
((إسرائيلُ)) هذي ولدٌ أم بلدٌ؟؟؟‏
والمغربُ الأقصى قريبٌ أم مُريبٌ؟؟؟‏
هل نسميّ طفلنا المولود مسحوقاً أم ((اسحقاً))؟؟؟‏
وهذا ((شرقُنا الأوسطُ)): هل نُلبِسُهُ‏
كوفيّةَ النّفط أم القبعةَ الجنزَ؟؟؟‏
وماذا يبدعُ الشّاعرُ إمَّا هدلتْ فينا حماماتُ ((السلامْ))؟‏
ما الذي ينقُره العصفورُ إذ يبصر صهيونيّةً‏
قد نبتتْ في حقلنا المهجورِ؟‏
ماذا يربحُ التّاجرُ؟‏
والعاشقُ: هل يبقى له وقتٌ ليُحْيي موقفَ الوجدِ‏
ويمشي تحت رايات الهُيامْ؟‏
ما الذي يفعله القاضي بآياتِ ((بني يهوهْ))؟‏
وما النّاسخُ والمنسوخُ؟‏
ما الماسخُ والممسوخُ؟‏
يا شعبي أتى فصل الجذامْ...‏
دمعة اللّيل الّتي يذرفها النّجم على كوكبهِ‏
المغشوش في الحربِ،‏
زغاريدُ نساءِ العشبِ في النَّهرِ،‏
أكاليلُ قبور وعظامْ‏
لقمةُ النّور الّتي تُسرَقُ كي تملأ أمعاءَ النَّشيد الملكيّْ‏
شمعةُ الحريّةِ الزَّرقاءِ في ليل التَّداعي العدميّْ‏
كلّ هذا بيعَ في سوق الجنون العربيّْ..‏
........................‏
........................ ؟؟؟‏
لبستُ سديمَ ذاكرتي‏
لأسألَ عن فتىً بالأمس كان نشيدُهُ العربيُّ باصرتي:‏
((بلادُ العرب أوطاني...))‏
أكلّم عنه أقمارَ القرنفل، كان يجمعُها بكفَّيْهِ‏
ويلقيها بحضن أميرة الأنهار في بردى‏
أذكِّرُ بابتسامته عذارى الأبيض المتوسّط،‏
الصَّحراء تقذفها الخمورُ إلى حدائق بابل العُلْيا‏
فتى سلّمتهُ مصباحيَ السِّحريَّ، مفتاحَ المغارةِ،‏
والكنوزَ، وعرشَ مملكتي‏
فتىً بالرّيح شدَّ خطاه وابتعدا‏
نفاني خلف أسئلتي وصار صدى‏
تطاردهُ الجوارحُ والمذابحُ والمسارحُ،‏
وهو: متروكٌ لوحشةِ بُعْده الثّاني‏
يخطُّ على التّراب غدا‏
ويضحك فيه شيطانُ الزَّمان: غَدٌ؟ وأيُّ غدٍ؟؟؟‏
وأنتَ مخيَّمٌ في الوهم ينمو في العبارةِ،‏
أو تتيهُ به الاشارةُ كلّما سجدا‏
هو المجموعُ تحت جناح شرياني‏
أذاكره بفحوى نارنا الأولى فيلتبسُ الرَّمادُ به‏
هوالمخلوعُ، واللاَّمنتمي، والضَّائع العبثيُّ،‏
وهوَ خزانةٌ من قشّ أحلامٍ وأحزانِ‏
معطَّلةٌ جميعُ حواس خيبتهِ‏
سوى شبحٍ يعومُ على بقاياهُ‏
يغنيّ حينَ يلقاهُ: (( بلادُ العرب أوطاني..))‏
فينكسر الصَّدى في عتمة الوادي:‏
((بلادُ العرب أكفاني، بلاد العرب أكفاني))‏
........................‏
........................‏
لكَ يا ليل المتاهات الفراتيَّة عشَّاقٌ‏
تهاوى نجمُهُم في مذبح الإرثِ‏
وفي ألواحهمْ ينقشُ أبناءُ ((حمورابي)) وصايا الحُزنِ‏
و((التُّرْكُ)) يقصّون رداءَ النَّهر نصفَيْن...‏
ومن عاداتِنا ((القوميّةِ)) الموتُ على رمل الحياةْ‏
ولنا في كتبِ الإيقاع ماء الكلماتْ‏
آه يا نهرَ الفراتْ‏
آه يا نعشَ الفراتْ‏
سمكٌ في النَّهرِ؟‏
أمْ أشباحُنا تبدو خلالَ الماءِ؟‏
يا صيَّادُ عبِّىء سفُنَ الموسم من ميراثنا الذَّابلِ‏
واحملهُ بعيداً خلف بحر الظّلماتْ‏
لم يزل مشهدنُا الرّوحيُّ يطفو‏
بمزاراتٍ وأعوادِ بخورٍ وطنيّْ‏
لم نزلْ نُنْشىءُ من فلّ صباحيٍّ أميراً‏
يأكلُ اليابسَ واليائسَ‏
نعطيه عذارى المدن الثَّكلى ونمشي خلفَهُ‏
نرضع من أقدامِهِ أفيونَ وعدٍ حجريّْ‏
أيّها الصَّيادُ، يا ساحرُ، يا سارقَ كُحْل العينِ...‏
كحَّلنا بمرأى نخلةٍ نجديَّةٍ نؤمنُ فيها‏
أنَّنا من نسلِ جدٍّ عربيّْ...‏
... ... ...‏
أصابعي ليلٌ، وقلبي حريقْ‏
واليأس ظلُّ الأرضِ في رحلتي‏
يحضنُني تيهٌ بأجفانه‏
أمشي وتنأى عن طريقي الطَّريقْ‏
متروكةٌ خيمتي‏
تلمّها الرَّيحُ‏
يرتاحُ فيها أنبياءُ الرُّؤى‏
ويشرقُ الرّوحُ‏
... ... ...‏
سكرَ الشَّاعرُ والشِّعرُ...‏
نهضّنا أنا والأقداحُ نخطو في نخاع الأضحيَهْ‏
هي في أعماقنا تسعى‏
ومن أضلاعنا ترعى زهورَ الأغنيهْ‏
منذ عرس سومريٍّ‏
و دمُ المذبح من أحداقنا ينزفُ‏
والكاهنُ لم يشبَعْ ولم تقنَعْ سماءُ الآلههْ‏
كلَّما جفَّ دمٌ ألبسنا الخوفُ جلوداً من خرافٍ تائههْ‏
وأنا أبصرُ صبُحَ العيد ظلاً يتمشَّى‏
بين خرفانٍ يُساقون إلى المعبد‏
في ركب جنودٍ وصنوجٍ أمويَّهْ‏
بينما جارتُنا ألقتْ على بوَّابة الحيِّ خروفاً‏
نذرتْهُ للولادات العصيَّهْ‏
أيُّنا الذابحُ والمذبوحُ؟ آه...‏
طقّت الأرواحُ مثل الخشبِ اليابسِ‏
في أحشاء ظلمَهْ‏
أيُّنا السَّاكنُ في برجٍ؟ وأيٌّ رافعٌ كفَّيْهِ خيمَهْ؟‏
أرهفِ السِّكينَ يا سيّد واذبح مثلما تُذبَحُ غيمَهْ‏
أنت لا تذبحُ فرداً إنَّما المذبوح أمَّهْ...‏
... ... ...‏
يا أمَّ معبدَ، تاهَتْ عنكِ راحلتي‏
وتلك أسيافُهُمْ تنشكُّ في ظَهْري‏
وحدي أهاجرُ، لا مهدٌ يشيِّعني‏
وليس يحمي فصاءاتي (أبو بكر)‏
ويثربٌ جنَّةٌ بالمعدن امتلأتْ‏
لا الوقتُ يجري، ولا أنهارُها تجري‏
لا خندَقٌ حولها يُغْني، ولا عربٌ‏
يهدهدون بكاءَ اللَّه في شِعري‏
يا حاديَ العيس، هذي أمَّةٌ لبستْ‏
أكفانها وهَوَتْ في وحشة القبرِ...‏