زفة سرابية - علاء الدين عبد المولى

بداية/نهاية:
يبقى من الوردِ أن نبكي على الوردِ
لا أفْقَ عندكِ مفتوحٌ، ولا عندي...
إن كان كأسُ النَّدى من خمره ضجراً
وخان كلَّ نداماهُ... فما يُجْدي؟
هذا الفضاءُ حملناه معاً شغفَاً
والآن أحملُه مستوحشاً وحدي
وأخطبوطٌ من الأوهامِ يُحْدِقُ بي
كأنَّني ملكٌ يمضي بلا جند
لليأس نحلتُهُ العمياءُ طائشةً
تمتصّ شعريَ إنْ لم يُرْضِها شَهْدي
لحنٌ عقيمٌ عزفناه، فأوهَمَنا
أنَّا نشاوى بفردوسٍ من المجدِ
عقرتُ ناقةَ أشعاري بلا ندمٍ
لمّا أناخَتْ على أعتابها ضدّي
أفيضُ من عدمٍ يُودي إلى عدمٍ
وأخدَعُ النَّفسَ أنّي جنَّةُ الخلدِ
تشقَّقَ القلبُ من قلبٍ أضيقُ بهِ
كالرَّعدِ تخرجُ منه آيةُ الرَّعدِ
أسيرُ كالوردِ فوق الأرض.. هل أحدٌ
إلاَّ وشيّعَ تابوتاً من الوَرْدِ؟..
***
القصيدة:
تمَّ الخريفُ...
وأكمل الطَّاحونُ دورتَه،
جلستُ على فم البركان زوبعةً،
وغيّمتِ الوجوهُ،
وما سمعتُ سوى الصَّدى المجهول مطروداً منَ
الوديان نحو حجارةٍ سدَّتْ على ليل الرَّحيلِ الفجرَ...
كان الفجرُ أطولَ من ذراعٍ طالتِ السّحبَ الكئيبَهْ
وخلعتُ عنكِ الاسمَ والتَّأويلَ،
ظلّتْ منكِ سيرةُ موجةٍ لبسَتْ
رمالَ الشَّاطئ العاري...
هنالكَ تصرخينَ على النَّوارس: طيِّروني
لن يسمعوا جسداً على تابوته ملقىً
ولا مستوحشاً سرقوا قرنفلَهُ
ونامت جمرةُ الماسِ المشعِّ به،
ولن تجدي سوى النّسيان مروحةً ترفُّ على
منامك آخرَ اللّيلِ السّجينِ
خطواتك الخضراءُ تابَتْ عن طريقي
عيناك قنديلان كفَّا عن بريقي
لم يبقَ غيرُ تأمُّل الأنقاضِ،
فلتقفي قليلاً قبل أن يهوي الرَّمادُ
على جبيني
ولنرفع القدَّاسَ...
باعتكِ التَّراتيلُ،
انتهتْ فيكِ الزَّغاليلُ،
اتَّكأتِ على جدارٍ آخر
ووهِمْتِِ أنَّ الفجرَ دون نداي أجمَلْ
هل وردةَ المعنى قطفتِ؟
أم الذّبول الفوضويَّ؟
أم انتقلتِ لمهدِ سنبلةٍ تراودُ أيَّ منجَلْ؟
ستبايعين ضلالةً
وتزخرفين جمالك العالي بأقنعة الدّعاءِ
فمن يجيبُ، ومن سيسأَلْ؟
شاهدتِ نفسكِ تجنَحين إلى يديَّ
كأنّك النّجمُ الصَّغيرُ يدورُ في فلكِ الغَسَقْ
سُمِّيت كلَّ التَّسمياتِ،
ولم يدرْ في بال بحرك أنَّه
سيصابُ يوماً بالغرقْ...
فإليكِ كلّ الأضحياتِ
جميع ما جمَّعتُ من ورقٍ سنشعله معاً
فالعاشقان أنا وأنتِ:
ألم أجدْكِ عقيمةً؟
ووجدتِني حبراً يسيلُ على ورقْ؟
كلماتنا شاخَتْ إذاً
فتسلَّلي بين الضّحى واللَّيل بنتاً
لم يعد فرقٌ أمام خوائها بين القصيدة والذَّبيحةْ
أنا ليس لي نبعٌ لأسقي ماعزاً شَرَدتْ قوافله،
ولا قمح لأطعم أسْرَةَ الأسماءِ من سرّي،
ضجرتُ من انتظارِ قطارِ زوّارِ الفَرَحْ
ولبثتُ بضعَ سنينَ في قعر الضَّريحِ،
ولستُ "يوسفَ" كي يخلّصَهُ "العزيزُ"
ولست فارسَ غزوةٍ أولى
ليحملني الحصانُ إلى قلاع الأندلسْ
أنا صمتُ جثمانٍ مسجّى تحت جفنات العنبْ
فلتخطفي منّي رماحَ الفتحِ،
وانتبهي إلى فرسانكِ الآتين بعدي...
أنا سلّةُ التفّاح مهملةً على حجرٍ،
تمرّ به رفوفُ النَّحل تسألُ من يكونْ؟
نسيتْ رحيقي ذات أبّهةٍ
كما تُنسى خيامُ البدو بعد الغَزْوِ،
لا يبقى سوى بعضِ الفناجين الصّغيرَةْ
ما صبَّها أحدٌ، ولم تعبَثْ بها شفةُ الأميرَةْ...
هل غادرَ العشَّاقُ مثلي؟
هل جرى مِنْ ظامئٍ نهرُ الجنونْ؟
مَنْ ضاقَ فيه كلُّ متَّسعٍ،
وجاءَتْ نفسُه لأمانِ كوثرها المحالِ؟
من شَقَّ من جنبيهِ صخرةَ نَفْيِهِ
وأقام في خشب الصَّليبِ؟
أنا صليبي...
وأنا العلوُّ المنكسِرْ
أنا منشئُ الأحلامِ مهووساً بخُضْرة من يحبُّ،
ولا يذوقُ طبائعي نهدٌ إذا لم يشتعلْ من جذرهِ
للموت في عنقي إطارٌ ينتظرْ
لَنْ تنزلَ الصُّور العتيقةُ عنهُ،
لن يلهو به سيلُ المَطَرْ
وأنا انبلاجُ الأفْقِ عن نسرٍ عجوزٍ ظلَّ يشبهني
إلى أن كدتُ أشبهه،
فمَنْ منَّا المغني؟
النَّسرُ لا يهوي على جيفٍ،
وقد آليتُ أن أغشاكِ وقتَ الحلْمِ
ناضجةً كتيّارٍ من النَّعناعِ،
كاملةً مكمَّلةً كسيِّدةٍ من الإشعاعِ
تنعشُ مجرياتِ الرّوحِ
تلبسُ شرشفَ الشَّهوات في شغفٍ
وترتعشُ الشِّفاهُ بنشوةٍ غُزِلتْ على نور الشَّبَقْ
النَّسرُ يقَرعُ بابَ جنَّتكِ المغطَّى بالحَبَقْ
هل تدركين دموعَهُ
تمتدّ من مسرى الكلامِ
إلى المعتَّق من كؤوس هشَّةٍ
سقطتْ على أرضٍ من الهذيانِ قبراً للألَقْ
فقدَتْ حديقتُكِ القديمَةُ بابَها
واجتاحَها الحرَّاسُ،
دقّوا بالصُّنوجَ،
وزغردتْ فتياتُ حيِّكِ للعريسِ،
أتى ذراكِ،
نهاكِ عن قَوْلِ الفضاءِ،
ولوثةِ الشّعراءِ في وادي العذارى يعمهونْ
سمَّاكِ محراباً للذته،
وأبصَرَ فيكِ قطَّتَهُ مغمَّضَةَ العيونْ
قال: استبيحي كرمَهُ ليحسَّ بالعنقود يهطلُ،
واعصري شفتيه بالياقوتِ حتَّى يشعرَ الإزميلُ
بالذَّوبانِ في الصَّخر الحنونْ
ميلي على جنبَيْهِ،
لا تنسَيْ قراءةَ آيةِ الكرسيِّ والتَّعويذتين
وقل هو الأحدُ الصَّمَدْ
وتلمَّسي للمرّة الأولى صهيلَ العَصْفِ في صيف الجَسَدْ...
وتذكَّري كمْ قبلةٍ هربَتْ،
وكم من موجةٍ هُدرَتْ،
وكم كنّا زبدْ
الآن شُكّي مخملَ القمرَيْن في نَوْلِ الأبَدْ
ودَعي أنايَ: تنازلتْ شرفاتُها
عن رغبة العليانِ،
كنتُ مسيَّجاً بيديكِ،
أبكي ما يشاءُ الله من رسلٍ،
وأنزفُ ما يراه الوجدُ من طللٍ،
وأهجرُ بيتَ أطيافي
لعلِّي واجدٌ في الأرض مرتَفَقَاً،
ولكنِّي دخلتُ الكهفَ آخرَ مرّةٍ ونسيتُ ذاتي فيه،
كم مرّتْ عليَّ من السّنينْ؟
عشرون كبشاً من حنينْ
عشرون بأساً من أضاحي الياسمينْ
خان النَّباتُ جذوره
وعليّ أن أرخي أعنَّتكِ الرَّخيَّةَ نحو آخرِها
لأبلغ كائني المطرودَ من نفْسي،
وأُرجعَ ما خسرتُ من الهواءِ
كم نمتُ مختنقاً بأحلامي،
ومعتكفاً على طاغوتكِ الوحشيِّ يكبرُ في دمائي
قدَّمتُ ألفاً من قرابين الشَّذى في معبدِكْ
وغفوتُ أنتظرُ المَطَرْ
لم ألقَ إلاَّ الخنجرَ الماسيَّ يلمَعُ في يدِكْ
وعلى جبينكِ كان إكليلُ الحَجَرْ
نامي طويلاً في مضيق التَّائهينَ
تحوَّلي شبحاً سيحبَلُ بالضَّجرْ
وتكوَّمي في كلِّ أسبوعٍ كسلسلةٍ تضيقُ عليكِ حلْقَتُها،
لتحتفلي بعرس الذِّكريات مع الصُّوَرْ
وتذكَّري أنّ المدينةَ كلَّها
ألقَتْ وراءكِ لعنةَ العشّاق عُبَّادِ الشَّجَرْ
ولتغلقي حصنَ الغوايةِ جيّداً
دوري عليه سيّداً نهِماً
سيولغُ في عميقِكِ مثل صيَّادٍ
يُجسُّ الموجَ من أطرافِهِ
حتَّى إذا رَفَعَتْ شواطئُكِ الشَّهيَّةُ ضوءَها الباهي،
رمى شبكاً خرافيّاً ليجمَعَ أجمَلَ المرجانِ من نهديكِ،
يلقط لؤلؤَ الأسرارِ من ساقيكِ،
ثمّ يعود بالصَّيد المباركِ
فَحْلَ أعماقٍ مثيرْ
ينهارُ قربَكِ متعباً من رحلةٍ في البحرِ
حين البحرُ مشنوقٌ على طرفِ السَّريرْ
ما كنتِ أنثاه الأميرةَ إنَّما
سيكونُ مولاكِ الأميرْ...
عُدِّي على أقدامِهِ أيَّامكِ الصَّفراءَ وانتحبي
أراكِ عجوزِ أحلامٍ،
وأمَّاً خلْفَ أطفالٍ سيمتصّون كوكبَها
وتفرَحُ في سبيل صعودها دَرَج الظَّلامْ
هل تنزلينَ امْ ترحلينَ مع الأعالي
هل تبصرين الشَّيب في عينيك غولاً ناهباً ثَمَرَ الجَمالِ
هل تقرئين الشَّاعرَ ارتطمتْ مراياه ببعض
عندما اخترتِ الصَّلاةَ على ضريحِ قصائدي؟
هل تسمعين الذِّئبَ يعوي بعضُه بعضاً،
ولا يبقى له غيرُ الرِّمالِ؟
حتَّى الرّمالُ محوتِ آثار القوافل فوقَها...
وظننتِ أنَّ النَّخَل أبعَدُ عن يديَّ،
وأنَّني جمَلٌ صغيرٌ بين آلاف الجِمالِ
جمَلٌ أنا، لكنَّما سنمي على قممِ الجبالِ...
هذا زفافُكِ ليس بحريّاً...
أرى الصَّحراءَ من شفتيك تولدُ،
والتّمور البابليّة عُبّئَتْ في قفَّةٍ كبرى
وبيعَتْ في المزادِ
البحرُ فيكِ تضاءلتْ شطآنهُ حتَّى السَّوادِ
صدَفٌ على فخذيكِ ما فيه سوى الدِّيدان،
أو حسَكٌ على نهديكِ مرميٌّ لكلبِ البحرِ ينبحُ جائعاً..
وأنا إلى أقصى المياه وقفتُ أسألُ:
هل زفافُكِ أمْ حدادي؟
شيَّعتُ خلفكِ ذاتكِ الثَّكلى
وأغلقتُ الحقولَ على سنابلِها
وأحضرتُ الجيادَ من الحظيرةِ
قلت هيَّا نتبعِ الذِّكرى
ونزرعْ قرب نَجْمِ سهيلَ جثَّتها
لتصبحَ بنتَ نعشٍ آخرٍ
وتضيء في أخواتها حتَّى يجدنَ رفاتَها
سيقول عنك منجِّمون: دخلْتِ برج المستحيلْ
ويذيع عنك محدِّثون: خسرتِ جوهرك النَّبيلْ
وأبوح عنكِ: جميلةٌ سقَطَتْ، فما جدوى الجميلْ؟
_________
20/3/2002