أبدية بلا نهاية - غادة السمان

قصف ... قصف ...
هات قطناً وكحولاً طبية وشاشاً ،
هات جبيرة ،
لنلفّ بها ساق الشرفة البحرية المكسورة.
هات تعويذة ،
نرد بها غضب الأسلاف والأجداد .
هات إبرة وخيطاً ،
لنرتق جرح القلب والكبرياء .
وحكِّم "مكمورة" الأطفال و "القجة"،
لنستخرج منهما جزيرة الحلم ،
ونهرب إلى أفيون ذكريات الآتي ...
لقد اصطفى الحزن هذه المدينة ، و صوّت لها الموت
بالإجماع...
ها نحن نرتعش ذعراً داخل أكياس الرمل، والقصف يزلزل
عظامنا...
يفخّخ جماجمنا من الداخل ثم يفجّرها...
نحلم بملمس العشب البرّي على الشاطئ...
نعلن بكبرياء الندم: أولئك الذين كتبناهم بالمحبة كرسائل
العشّاق المراهقين ، خرجوا من أحلامنا جلادين .. .
وها هم يعربدون في ثقوب قلوبنا،
يتّخذون من صماماتها متاريس لعبهم ...
لقد غدروا بنا يا صديقي...
حبلنا منهم بالأحلام الكاذبة، فولدنا الفقاعات والرماد...
تعثّرنا بقلوبنا.. ولكنني أقسم بدمك - ذاك الذي يسيل
بهدوء حتى البالوعة - وأقسم برأسك المقطوع العائم في سواد
الملجأ بلا جسد: لن نستسلم لكرنفال غسيل الذاكرة...
***
قصف... قصف...
وأنا تعبتُ من نظراتٍ غامضة...
تتهدد بالشرّ والوعيد كالأزقة الخلفية المعتمة...
تعبتُ من وطن يسلبني حق التصويت...
يمنحني فقط "حق الذبح": أن أكون ذبيحة!
لي أن أختار بين أن أكون ذبيحة أو أنضم إلى فريق
الجزّارين...
أنا لا أريد أن أَقتل ولا أن أُقتل...
أريد أن أحيا تحت سماء صافية حتى من غيومها، بعيداً عن
هباب البارود فوق البراعم...
هل تذكر يا صيديقي أيام كان رجال شرطة السير يحررون بك
مخالفة بدلاً من مسلحين غامضين، يعتبرون حياتك "مخالفة" لا
تُغتفر... ويسوقونك إلى الذلّ الإجباري كل ليلة؟
هل تذكر مرحنا في شوارع مضاءة لم يكن اسمها "نقاط
تماس" ؟
وكيف كنا نتدفق إلى البحر في شواطئ لم تكن "مواقع
استراتيجية"؟ وكيف كنا نصافح جارنا ونسأله عن صحته بدلاً من
دينه وملّته وطائفته وأمير حربه وذخيرته؟
كيف تركناهم يسرقون منا أحلامنا ، وأكبادنا، ليشحّموا بها
أسلحتهم وجنازير دباباتهم ؟
كيف رضينا باستبدال رمال الشواطئ بأكياس الرمل في
الملاجئ ؟
كيف تركناهم يقصّون زيتوننا العتيق ويبيعوننا إياه كوماً من
التوابيت بدلاً من سرير عرس؟
كيف لزَّمناهم مزايدة "العدالة الاجتماعية" ، فأسلمونا للحزن
بين القصف والمجاعة؟
هل تتذكر أيام كان الفرح نضراً كخسّة وبريئاً كالكرز، وكنا
نريده أن يعمّ الجميع وصدّقناهم؟
هل تتذكر أيام كان المشي في الشوارع لا يُعتبر تهمة زنا مع
الفرح والحرية؟
هل تذكر كيف كان الأطفال يذهبون إلى المدارس دون أن
ترافقهم "مارشات" القذائف هدية من "ماريشالات" الدمار؟
حذار من الذاكرة مرة،
وحذار من النسيان ألف مرة...
***
قصف...قصف...
ولكنني لن أنسى كيف احتضنتني بيوت القرميد في تلك
التلال والشواطئ...
لن أنسى كيف سندتني جبال الصوان واحتواني كفّ البحر
المشمس...
لن أنسى كيف انفتحت لي الحقول والقلوب ككتاب، وحنت
السراخس وأعشاب الليل على جرحي...
لن أنسى كيف أحاط بي دفء الطيبين واحتوى أبجديتي
كالرحم، وكنت متوحشة كنبع ارتوازي، وبريئة كنبع لا يد له في
تدفقه...
لبنان، الكلمات إطارات نجاة مثقوبة في بحار حبك
المضطربة... فماذا أقول وأنا سمكة كان بحر بيروت لها محبرة
حرية؟
***
من ينسج هذا الحنين إليك في حنايا روحي أيها البعدي القريب؟
لم أعدْ أعرف، هل أشتاقك، أم أحب نفسي كما كانت في
زمانك؟!
أأحنّ إليك، أم إلى وطن عشناه معا وكان إمكانية تعايش
عادل بين الطوائف... خطوة نحو المحبة أي حضارة إنسانية؟!
أما زلتُ أحبك حقاً ، أم أحبُ عبرك ذلك الحلم ، وتلك
الساعات الهاربة إلى المستحيل؟
قصف...قصف... تسعل الجبال ناراً وتبصق حمماً...
وترتجف جدران قلوبنا وتتهدم قبل ولوج الملجأ...
الذين صدّقناهم حين اقتطعوا لحمنا وقالوا قضيّة، جعلوا منا
مطيّة...
***
قصف... قصف...
فمن يعلّمني، كيف أزغرد في عرس قاتلي؟
وكيف أجفف بإسفنج الخوف،
دم المذابح، وأتغزل بالسكاكين المحدقة بي؟
من يعلّمني،
كيف أرحِّب بالمشانق في الديار، وأصفّق لقرار نفي
الأشجار؟
فلتسطعْ شمس الصدق المميتة فوق الحريق، ولتشهدْ على
روح تنصهر عشقاً لبردى وشط العرب والبحر الأحمر والأبيض
والنيل والبردوني من محيط القلق حتى محيط الظلمات..ز
ولتظل اللغة خادمة لإله الصدق لا لأرباب الحرب ودماها
وأُمراء الخراب...
***
أربعة عشر عاماً ولم يخجلوا... وهم يجلسون تحت
القرميد ويتشاجرون على حكم البيت بحجة إصلاحه.. وما
زال الشجار مستمراً رغم أن البيت تداعى بأكمله واحترق ولم يبقَ
ثمة ما يقتسمونه غير جمهورية الحزن والرماد والجثث التي ماتت
ولكنها لا تزال تركض بين الملجأ والمستشفى والمقبرة كالدمى
المتحركة...
أحفاد لعنة أوديب العربي، أولئك الحمقى الذين يتعاقبون
على قتل أبيهم منذ أربعة عشر عاماً، ما الذي سيفعلونه الآن وهو
يلفظ أنفاسه بين أيديهم الملوّثة بدمه؟
تباركت الذاكرة العنيدة كحمار:
أذكر أننا كنا ننادي في شوارع بيروت بفلسطين والحرية
والعروبة،
فصرنا لا ننادي اليوم بغير اللقمة والاستحمام والنوم ووقف
القصف... هكذا تقضي المؤامرة الشاسعة...
***
قصف...قصف...
أيها الهواء الذي يختنق مثلي، ساعدني...
أيتها النوافذ التي تتحطم فوق رأسي، ساعديني...
أيتها المرأة التي تلفظ أنفاسها عند عتبة الملجأ وتبدو لا مبالية
بشيء، ساعديني... كي أرضى بأن أموت مثلك ضحيةٌ، بلا
قضيّة، مجرد مطيّة...
قصف... قصف... وأنا في الملجأ أتظاهر بالنوم كي لا
يسألني أحد عن الساعة فأنفجر باكية...
أتابع سقوطي في تلك البئر كالريشة وأتأمل في الوقت ذاته
ارتطامي بالجدران...
قصف... قصف... متى ينجزون تدمير المدينة ويدعوننا
وشأننا؟
متى ينجزون سلخ جلدنا، واستئصال حناجرنا، وغسيل
ذاكرتنا كي نستعيد دمنا المختبئ في الخوابي، ونغادر علب
المعلّبات المعدنية التي انغلقت علينا منذ أربعة عشر عاماً؟
متى يترجّل البكاء عن أحصنة الارتجاف الأخرس وينام بسلام
على وسائد التنهُّد؟
قصف على الذاكرة... قصف... وكلنا مطيّة، فماذا كانت
القضية؟
______
3/8/ 1989