ميزان الجزر - محمد الماغوط

كل محرضات الشعر أمامي ومن حولي
النجوم المتألقة، الطيور الهاجعة، الأشجار الساكنة والأفق
اللانهائي الخالد
ولكن لا شيء يحرضني على الكتابة إلا الصغائر والترهات
العابرة والمفاجآت المنزلية المباغتة
كأن تندلق القهوة على ثيابي
أو يعطس أحد في وجهي
أو يصطدم رأسي بخزانة
أو قصبة ساقي بزاوية مقعد
أو أفاجأ بخطأ في فاتورة البقال أو الهاتف
لأنني أسجل ديوني وأقرأ فواتيري كما أقرأ الشعر
وأستسلم للتداعيات التي تسببها هذه الأخطاء إلى الكتابة عن
الدوائر الرسمية وفوضى المرور والأسعار إلى ارتفاع نسبة الضرائب والبطالة
إلى الحشود العسكرية وحرب السويس وحزيران وتشرين ولبنان
إلى مجزرة قانا ومجازر صبرا وشاتيلا إلى حلبجة وتل الزعتر وفرج
الله الحلو وسجن المزة وسجن المية ومية وسجن أبو غريب وسجن
تدمر والمقابر الجماعية في كل مكان
إلى إفراط عبد الناصر في التدخين ومبادرة السادات واغتياله
ووفاة أم كلثوم وفريد الأطرش وعبد الحليم ومحمد قنديل
إلى الاحتباس الحراري والغدر بكارلوس وانطون سعادة وكمال
خير بك واختفاء موسى الصدر ومرافقيه وغزو العراق وليبيا
والتحالف الدولى والكيل بمكيالين.
طبيب العائلة يقول لي: كل هذا ولا تأكل ذاك وكل شيء
سيكون على ما يرام.
والطبيب النفسي يقول لي: نم الساعة كذا واستيقظ الساعة
كذا ونصف حبة من هذا مع كل وجبة
والطبيب المناضل: مظاهرة كل يوم، مسيرة كل أسبوع،
مهرجان كل شهر، وبعد ذلك لن يعكر صفوك شيء.
وطبيب الشعر يقول لي: كل واشرب اعطس وتجشأ ونم
واستيقظ وانس وتذكر واسهر واركض واقفز وهرول واخطب
وصفق وصفر كما تريد وأنى تشاء
مثل هذا الطبيب سأرشحه لوزارة الصحة ولمنصب الأمين العام
للأمم المتحدة ولمنظمة الصحة العالمية
ولكن ما يقض مضجعي وينغص علي فرحتي هو مصير تلك
الأشجار التي كانت أشجاري
والرياح التي كانت رياحي
والبحار التي كانت بحاري
والرفاق الذين كانوا رفاقي
والأمة التي كانت أمتي
فرغم خيراتها الوفيرة ومياهها العذبة ومناخها المعتدل وآثارها الخالدة
ورغم أن كل حكامها وقادتها وزعمائها دكاترة في كل شيء،
تتنقل من مرض إلى مرض حتى وصلت إلى الحال التي يعرفها
الجميع.