أجمل الذكريات - محمد موفق وهبه

صَديقي.. أحدِّثُكَ اليومَ عن أجملِ الذكرياتْ
بحثتُ عليهِنّ في كلّ دَغْلٍ وكلِّ فَلاةْ
وفي مُدلهِمّ الدياجيرِ والظلُماتْ
وفي طرقٍ بَعُدَتْ عن ضياءِ الشعورْ
وبينَ القُبورْ
نَبَشتُ دَهاليزَ مردومةً بغبار الزمانِ
فلم ألقَهُنَّ بأيّ مكانِ
وحينَ النعاسُ غزاني
أَتَينَ مع الحُلْمِ دونَ توانِ
يُظلِّلُهُنّ كَثيفُ الدُّخانِ
ويسبقُهُنَّ العبيرْ
جلسن أمامي على بُسُطٍ من زهورْ
فحَيَّينَ بالعَبراتْ
تساقطنَ حزناً على الوَجَناتْ
فأينَعَ وردٌ وتوتُ
وضَوّعَ مِسكٌ فَتيتُ
ورانَ السكوتُ
كأنّا لُجِمنا بسحرِ اللقاءْ
فمثلَ اشتياقي إليهنَّ كُنَّ إليَّ ظِماءْ
ورحتُ أقصّ علَيهنَّ ما قد لقيتُ
وما قد عرانيَ بعدَ الفراقِ من الحَسَراتْ
فقبَّلنني بالتَّأَوِّهِ والزفَراتْ
قَصَصَنَ علَيَّ الذي ما نسيتُ
وأقسمنَ أَلاّّ يُفارقنني ماحييتُ
..
نعم يا صديقُ هي الذكرياتُ الجميلَهْ
وإن رقدت خلفَ صَمتِ الأحاسيسِِِ ليستْ تموتُ:
سنينُ الدّراسَةِ، والعُمُرُ الأخضرُ
ربيعُ الحَياةِ، وبستانُها المزهرُ
هي اليومَ واحةُ عمري الظليلَهْ
وكم كنتُ أنعَتُها النّكَدَ المُدلَهِمَّ ألا تَذكُرُ..؟
فلم تكُ عندي سوى زمهريرِ العَناءْ
وقيظِ الشَّقاءْ
تَعُبُّ وتأكُلُ من مقلَتَيَّ الحُروفُ، ورأسي
تجولُ بهِ راجماتُ الصداعِ صباحَ مساءْ
تدقّ به ألفُ مِطرَقَةٍ ألفُ فأسِ
مَضى كلّ ذلكَ دونَ انتِباهْ
كأنْ لم يكنْ من فُصولِ الحَياهْ
ومرَّ قطارُ الزمانِ وخلّفَ أثلامَهُ في الجِباهْ
ولكنْ بِوُدٍّ وطيبَهْ
أعادَ لنا كلَّ ما قد محاهْ
من اَعمارِنا ذكرياتٍ حَبيبَهْ
صديقي ودِدتُ
لَو اَنّيَ لم أغدُ يوماً كبيرْ
لَو اَنّي بقيتُ صَغيرْ
وما زالَ كلُّ الذين عَرفتُ
يُنادونَني يا صَغيرْ
كَأُمّي
تَنادي صَغيري ولا تَلفِظُ اسْمِي
وهَمّي
جِراءٌ.. طيورْ
ودرّاجةٌ كلَّ يومي
أظلّ عليها أدورْ
نَعَمْ ذاكَ بالأمسِ في زمنٍ كانَ جدَّ قصيرْ
ولم تَدْرِ أوقاتُهُ أنّ جيشَ الكَآبَةِ سوفَ يزورْ
لِيُغرِقَ فجرَ السّرورْ
بِدَيجورِهِ المُدْلَهِمِّ
صَديقيَ، عَما قريبٍ بُعيدَ كِتابَةِ هَذي السُّطورْ
سأطلقُ نَفسيَ من سجنِ وهمي إلى عاطراتِ الرّحابِ
سأرمي ورائيَ مابي
من الحُزنِ، منْ حسرَةٍ واكتِئابِ
سأنضحُ دَربي المُمِلَّ سروراً سأملؤه بالزهَرْ
سأَدخُلُ عبرَ حَياةٍ جَديدَهْ
بنَفسٍ سعيدَهْ
وروحٍ إلى الحبّ تَوّاقَةٍ جائِعَهْ
سأهدمُ قَبوَ الهُمومِ، وأقفلُ بابَ الضَّجَرْ
لَسَوفَ أَطيرُ أَطيرْ
بجنح السرورْ
أجول بدنيا المُنى الرائِعَهْ
بأفقِ المَحَبّة أطوي امتداداته الشاسعة
أضمّ قلوباً به وادِعَهْ
سَيُصبِحُ ظِلّي خَفيفْ
وَلَكِنَّني لَستُ أَدري لِماذا أُسَجِّلُ هَذي الحُروفْ
وَعَيني لَها دامِعَهْ..؟
يَقولونَ: سَجِّلْ كَلامَ الصّدورْ
فَإِنَّ اليَراعَ الحكيمْ
سَيَشرَبُ مِنك الهُمومْ
وَيَسكُبُها في السُّطورْ
صَديقي..
إلى المُلتَقى يا صَديقي..
أنا بانتِظارِ رسالةِ حُبٍّ صَغيرَهْ
تعيدُ لقلبي شعورَهْ
وتطفئُ بعضَ حريقي
فلا تَبخَلَنَّ عَلَيَّ ببضعٍ من الكَلماتِ
تطمئنُ ذاتي
تنيرُ طريقي..
وداعاً صَديقي..
.
1961