أتلفّت نحوك..أبكي - ممدوح عدوان

تقبلين من الفرح المرتجى
تقبلين من الفرح المستحيل
وتأتين كالضوء من عصبي
تطلعين من القلب
ينكشف العمر في عريه
هيكلاً من عظام الأماني
وزوبعة من شقاءْ
تكشفين قصوري عن الحب
بعدي عن الله
عجزي عن الحلم والذكريات
تجيئين ملء القلوب العريقة
ملء العيون العتيقة
لم تتركي فسحة للرغائب واللهو
لم تتركي خفقة للّقاءْ
غربتي كشفت وجهها
فرأيتك كل الذي مرمر القلب
لم أتحمل دفاعاً عن العشق
أو عن طفولتنا
ورأيتك:
لم يضطهدني الطغاة لرأي
ولم يأت خلفي الغزاة لأرض
ولم تجرح القلب في لوعة هجرة الأصدقاءْ
كنتِ خلف التوجع والدمع
في الخوف كنتِ.. وكنتِ الشقاءْ
ولكي أتقرب منك
لكي أتلمس نبضك
أو أتقرى ابتسامة عينيك
كابدت هذا العناءْ
فضحتني الدموع التي صبغت ذكرياتي
ودمعيَ غالٍ
تعملت كيف استوى الدمع بالدم
أعبد من سفح الدمع والدم كرمى لها
فضح الدم حقدي
فلا عفو عمن أباحوا دمائي
ولا عفو عمن أباحوا البكاءْ
قلت: قلبيَ يقفز
ينذر بالشر
قلبي تعلق مرتعداً
عند أول هذا السواد
الذي يملأ الأفق
قلت: جبيني على وشك الإنكفاءْ
والعواصف إذ تعتريني تبددني
وأنا أتماسك في ذكرياتك
هَدَّأتني
لم تكن غيمة تتجمع سوداء في الغرب
كي ترتمي مطراً
فالغيوم التي اعتدتها أصبحت ناشفه
والرياح استكانت
فلم تأتنا نذر العاصفه
قلتِ لي:
إنها الطير
في رهبة الأفق سوداء
والناس ترقبها
أقبلت كالشحوب الذي يعتريني
إذا ما ارتعدتِ على ذكرهم نازفه
ما الذي سوف يأتي؟
ترنحتُ.. أمسكتِني
وتوجعتُ.. أسكنتِني
واندحرتُ.. فأرجعتِني
كانت الطير في رهبة الأفق سوداءَ
جاءت كعتم يفاجئ عند الظهيرةِ
غطت سماءَ المدينة
واصطدم الخلق بالخلق
فالضوء يسودُّ
والقلب يسودُّ
والمدن المتسعيذة مشلولة واقفه
وصلت زعقة
وتلاها عويل
تغير نبض السماءْ
ذهل الخلق
وابتدأتْ هجماتُ الطيور
وراحت مناقيرها تنتقي في الزحام
فرائسها الراجفه
خفت ملء عظامي وأوردتي
أقبلت هجرة راودتني
هممت بها
غير أني رأيتك،
قلت: معاذَ هوانا
رجعت أسلّم عمري
وأخلع خوفي
أواجه نبض نهايتنا
خفت أن تفقديني
وخفت إذا شدني الخوف صوب الأمان
إذا لفني الذعر بين المنافي
بأن لا ألاقيكِ عند المساءْ
حينما شبَّ بين القلوب هروبٌ
تشبثت باسمكِ
أطبقت قلبي على نظرتيك
لأجلك أبقى
وتطبق حولي مصيدة الطير
أبقى لديكِ
ولستِ معي
أتمسك بالبرق من ذكرياتك في حلكي
أتعلق بالماء، يندفع السيل
أنشدّ للضوء، يندلع الليل
أنشدّ نحو التراب، يثور العجاج
بلاد تفور
وأخرى تغور
وشمس تغيب وراء الطيور
أطارد خيط شعاع
تسرب ما بين طير وطير
وأغمض عينيّ
ألقي بنفسيَ ما بين عينيك
علّي ألامس نبضاً من العاطفه
تترامى حواليّ نظرات ذعر
تشتّت جمع تراخى على دفء ذاك الصباح
وتاه الذين استراحوا على خوفنا
اتسعت للسيول البراري
فجاءت تعربد فيهم مبدّدةً جارفه
فزع البعض للحلم:
فالطير تأكل خبز الرؤوس
استعاذ التقي بأربابه:
تلك من غامض العلم
قال الجياع:
ذنوبٌ تطارِدُ
قال الجناة:
انفروا،
تلك طير أبابيل
ثم انطوى الأثرياء على نهبهم
وانطوى الفقراء على جوعهم
يلهثون عياءْ
أستميحك دمعة حزن
أنا كنت حذرتهم
قلت: لا توقظوا طير هذا الزمان
البراءة ليست بجوع قديم
وليست بخوف قديم
ولكنهم سرقوا كلماتي
رموني بها
كلما شئت أن أتذمر
واجهت شكواي فوق شفاه اللصوص
وإن شئت أن أتوجع
تسبقني صرخاتي من الطغمة السالفه
قلت: أرقبهم شامتاً
فالطيور التي أيقظوها تمزقهم
والذنوب التي أدمنوها تطاردهم
رحت أرقب من جندلته الطيور
ولكنني كنت أرقب مقتله شامتاً
والبقيةُ مندهشون
يراؤون أن ذهلوا
حينما انفرز الخلق طائفة طائفه
وأنا أتساءل في حرقتي:
ما الذي كان يمنع أن يتحول جوعي إلى طائفه؟!
ما الذي منع الفقر أن يتجول للبحث عن وجهه
في القرى والحواري
وبين ضجيج المصانع
مَن شاغل الجائعين عن التخمة الهمجية؟
مَن صدهم عن صراخ تقال به التهمة الأبدية:
" ما أشبع المتخمين سوى جوعنا."
مِن أولي الأمر جاءت قوائمنا:
نحن للحرب
تبقى الدكاكين للباعة
السجن للمتوجع
كيف تكون القصور لهم
وتعشّش فيها الطيور
تهيج الطيور التي أطلقوها
وتنقضُّ تخطئهم
وتصيب مقاتلنا؟
ويباغتني الله في نعمة
تنتقي صفوة القوم
كيف أصدق أن لدى الله نبع حنان
ولا يتطلع يوماً إلى قهرنا؟
لا يرى البشر الساكنين زرائب؟
والآكلاتِ بأثدائهن بلا شبع
حيث صنعة عهر
أمانٌ من الفقر
والموتُ جوعاً
وكيف تغافل كي لا يرى الآكلين النفايات
في مدن من مناسف
لا يسند القلب في ضعفه
تحت عبء الهموم
إلهي الذي قيل لي إنه صاغني مثله
كنت أرغب لو صغته شبهي
كنت أسكنته وطناً
يتفنن كيف سيبكيه في كل يوم
يشكّك في خلقه
ويطالبه أن يصفق للظلم
يجبره أن يحب العدو
وأن يتقلص خوفاً أمام الجنود
وأن يتجاهل كيف تضيق عليه الحدود
وكنت أطالبه أن يحب بلاداً تجاهره كرهها
ثم تمنعه لقمة بكرامته
وأطالبه أن يحب بلاداً تفاخره عريها
فتبارك هذا الإله
الذي كان ييرفض أن يتمرغ في عيشنا
لم يكن يتقن اللعب فوق المزابل
لم يعرف السير في قسوة الوعر
لم يعرف النوع جوعاً
ولم يعطنا ما يواجه هذا البلاءْ
ها هو الله يأتي أخيراً
على هيئة الطير
ينقر أرواحنا
كيف لم نره أمس
حين قضينا طوى ليلة نتضور
كيف توارى عن الحلم
لم يأت في لقمة أو رغيف
وكيف مضى دون أن نتعلم
كيف نصفّي الحساب
وأمسكتِني
قلتِ لي: الله يرزق
يجزي الثواب لعبد صبور
ولكنه الله أنسى بنيه العقاب
فلا تحسبيه علينا
ولا تحسبينا عليه
ابحثي عن سماء بها الله
فالله لم يتحدر إلى الأرض
أو فابحثي عنه في وصفه:
لم يكن غير رب غني
فروحي إلى الأغنياء تريه
لقد أيقظوا فتنة تفلق القلب
صاغوه فيها رصاصاً
ودارت حواليهمُ غابة
لم تكن غير أعناق أموالهم
فإلى أي رب سيلجأ أبناؤه الفقراءْ؟
أتظل الحياة الشحيحة فيهم
تقطر محسوبة بالدقائق حتى تجف
إذا انقضت الطير في زعقة خاطفه؟
أتلفت نحو بلادي.. وأجهش
ما همني سمع الله هذا النشيج إذن؟
أم تصامم؟
إن كان لا يتنازل أن يمسح الدمع
أو أن يهدئ في ليلة وجعي
أتلفت نحو بلادي.. وأجهش:
كانت بلاديَ ملأى بزغردة وزهور وماء
وكانت بلاديَ ملأى بنا
كان قلبيَ ملآن بالأمل الطفل:
أن يتحول جوعي إلى طائفه.
منعوه
وقد أيقظوا قبل وعيي الطيور
وكانت تحصنهم دون علمي القصور
وطولب أطفالنا أن يسيحوا الدماء
راحت الطير تزعق
راحت تحلق حتى تذوب مع العتم
تنقض صاعقة
والعراة الحفاة ينخّهخم ذنب أسيادهم
يتلمّس كلٌّ على رأسه
يتجمع والذعر يدفعه نحو مقبرة
ويضيع الأمان
فيبرق شكٌّ على كل وجه
يهيم المطاردَ
يطلب ملجأه في السجون
ويسطع خوف من الأعين الحمر
يركض في كل قلب وجيب
فلا قفص الصدر يحمي
ولا الحرس الهمجي
ولا صلوات الدعاءْ
سألوا الله عن علة الأمر
لم يستمع
ثم في ليلة،
كان أفقرهم خائفاً من عيون الطيور
رأى الله في طلعة للهلال
فقال: إذن.. ذاك ربي يطاردني
سوف يفضحني
كيف يبقى إلهي مضيئاً
وكل الذي في حياتيَ عتم
وضوء الطغاة وراء حصون مدججة
سورتها الديانات بالصلوات
وكانت قرابينها بشراً أبرياءْ
والقرى تتوجع مذعورة
تتهيأ أن تتلقف
من غامض القتل أبناءها في التوابيت
ترقب آفاقها بعيون مجرحة
تتوقع صرخات أبنائها
مثلما يتوقع أبناؤها هجمات الطيور
فيغلق كلٌّ نوافذه
يفتح القلب للذعر
ينكر قرع الصديق على الباب
ينكر زغردة الشمس فوق النوافذ
يلطأ تحت اللحاف
يشكُّ بهمس الرياح
ويرهب شدو البلابل
يخلي المسامع
يخلي الحدائق حتى من الزقزقات
ولا ستر في عربدات الخواطر
إلا وشاح من الذعر
توق إلى هرب
وتفجع أم بذاكرة الخوف
إذ تتشظى دعاءً
وتنهار من عجزها بالبكاءْ
الطيور تحوّم مثل صدى يطلب الثأر
هل كان رائدها جائعاً يتمرد
أم متخماً يتبرد بالدم
هل هذه الرفرفات عيون
يعشعش في حمر أجفانها رمد
أم ترى أمة تترمد
فالسوق ضارية
والدكاكين تعرض ما يستجد
قميصاً لعثمان
سيف علي
دماً للحسين
وتختلط الصرخات:
نداء التجارة
في شهقات الدعارة
في صلوات العبادة
في صرخات المطاردة الراعفه
أنتِ أبقيتني
فاشرحي ليَ ما الفائده؟
أتراني بقيت على زمني شاهداً
أم تراني بقيت على وطني شاهده؟
ولماذا أطارد في حضنك البكر
تذبحني بغتة في ظلال ابتسامتك البارده
بين حشد من الأشقياء
وفي لهب الذعر أبحث عنك
أقول: سلمنا معاً
أو أقول: سلمت بنا
غير أني أتوه وراءك
تحت ظلال الطيور
وتحت ظلال السيوف
وفي زعقات الطيور
ولسع السياط
وبين حفيف الجناح
وبين فحيح الجناةِ
أتى الموت يجتاح
يشهر في أرضنا منجله
فبدأت غنائي
أردد اسمك تحت المقاصل
لكنهم حولوك إلى مقصله
وأظل ألوب عليك
كلما أتلمس بقيا من العمر
بقيا من الحلم
أخطو عنيداً
أكابر خوفي وجوعي ويأسي
وأعلن عن حبنا المتنمّر رغم الوباءْ
وأناديك
لا تسمع الأرض
لا تستجيب السماءْ
وأناديك بين هدير الدماء
فلا تسمعين النداءْ
غير أني أنادي.. أنادي.. أنادي
لتبقى بلادي بلادي
وأعرف لون ترابك
إذ يرفض الدم حتى يسيل
ويجتمع الدم والدم
ثم تعربد هذي الدماء سيولاً
فتملأ وجه الفضاءْ
ولأني أضعتك مائدة للّئام
ولم ألق وجهك طائفه للجياع
سألقاك في كل جوع جديد
وألقاك في ما نزفنا دماءْ
حينما أتلفت أبكي
فأعرف أين اختفيت
ويعرف قلبك أبناءه
نتلفت للفجر
ينفجر الفرح المتوهج فينا بكاءْ
يفضح الدمع أحقادنا
ثم لا عفو عمن أباحوا البكاء
يفضح الدم أشلاءنا
ثم لا عفو عمن أباحوا الدماء.
____________
من ديوان: للخوف كل الزمان