القيصر - محمد نجيب المراد
"باقةٌ من زخَّاتِ نافورةِ الماءِ في بيت أبي"
                                                                    "والسؤالُ الذي أرَّقَ الشحارير"
                                                                    ويأتي الصيفُ يلبسُ ثوبََهُ الأَحَمرْ .
                                                                    ويرمي شََعْرَ غُرَّتِهِ على حرفي ...
                                                                    فلا تدري من الأشقرْ .
                                                                    ويضحكُ ضحكةً بيضاءَ في أَلَقٍ...
                                                                    ويشهقُ فوق رابيتي...
                                                                    فإذْ غصنُ الهوى زرَّرْ .
                                                                    تميلُ بناتُ أفكاري...
                                                                    تهزُّ الرأسَ مثلَ سنابلِ البيدَرْ .
                                                                    فقمحٌ من هناكَ حكى...
                                                                    ونبعٌ من هنا ... ثرثرْ .
                                                                    وأشجارٌ من الدرّاقِ فيها الخوخُ...
                                                                    طولَ الليل كَمْ عانى ... وكَمْ فَكَّرْ .
                                                                    وصََعَّرََ خدَّهُ كَرَزٌ فما أحلى الذي صََعَّرْ .
                                                                    جمالٌ لو أُصوِّرُهُ ... يدُوخُ الحبرُ والدفترْ .
                                                                    ***
                                                                    يجئُ الصيفُ ينبعُ من يدِي "بردى".
                                                                    ويسقي "غوطةً" أكبرْ .
                                                                    مساحاتٌ من الرُّمانِ في قلبي...
                                                                    يصافحُ لونَها بيدٍ...
                                                                    ويلثمُ وجهَهَا بفمٍ...
                                                                    على مَهَلٍ ... ولا يَضجَرْ .
                                                                    "زقاقُ الصخرِ" ضمنَ دمي وشلاَّلٌ على "دُمَّرْ ."
                                                                    لذاكَ "دمشقُ" قد سَكَنَتْ ....
                                                                    "بربوتِها" على شريانيَ الأَبَهرْ .
                                                                    ***
                                                                    يجيءُ الصيفُ من "كيوانَ" ...
                                                                    حيثُ مشاتلُ العنبرْ .
                                                                    وحيثُ "المزَّةُ" الحسناءُ في دَلٍّ...
                                                                    تمُدُّ سريرَها الأخَضَرْ .
                                                                    وحيثُ "المَرْجةُ" اغتسَلتْ ...
                                                                    وَلَفَّتْ فُلَّها المنسوجَ من عطرٍ على الردفينِ كالمِئزرْ .
                                                                    وحيثُ الياسمينُ مَشى...
                                                                    من "الميدانِ" "للقصَّاعِ" يرقصُ "عرضةَ" الخَنجَرْ .
                                                                    فينزفُ من هنا رَهَطٌ...
                                                                    ويُذبحُ من هنا مَعشرْ .
                                                                    وكلُّ الشامِ تعشقُهُ...
                                                                    برغمِ الطعنِ في حبٍّ تسامحُهُ...
                                                                    ولا تثأرْ .
                                                                    يَمدُّ أصيصُ أزهارٍ عيونَ العطرِِ من شُرَفٍ...
                                                                    ويرفعُ كفَّهُ المخضوبَ من عَبَقٍ ...
                                                                    يُحيي سيَّدَ الأزهارِ....
                                                                    يلقي فوقَهُ مِنديلَهُ المشغولَ بالمنثورِ إذْ أَزْهَرْ .
                                                                    ***
                                                                    وإنَّ الصيفَ في وطني...
                                                                    كما شاهدتُ ...
                                                                    بستانٌ يُصلّي الصبحَ في الساحاتِ...
                                                                    أنسامٌ تقيمُ الليلَ .. تتلو سورةَ الكوثرْ .
                                                                    وأصواتٌ من "النعناعِِ"...
                                                                    رائحةٌ من "النهاوندِ"...
                                                                    لوحاتٌ ... ترى بيديكَ أو عينيك َ روعَتها...
                                                                    فسبحانَ الذي صَوَّرْ .
                                                                    قميصُ الحُسْنِ شَفَّافٌ على وطني...
                                                                    وإنْ غطَّى وإنْ سَتَّرْ .
                                                                    فَكُمٌّ ههنا أرخى بأزرارٍ من الفيروزِ لامعةٍ...
                                                                    وَكُمٌّ ... ههنا شَمَّرْ .
                                                                    ***
                                                                    مطاراتٌ شبابيكُ الدمشقياتِ للأطيارِ...
                                                                    تهبطُ عندها عصراً...
                                                                    تزوِّدُ نفسَها بالفستقِ الأخضرْ .
                                                                    وترسمُ خطََّ خارطةٍٍ...
                                                                    إلى الكحلِ الدمشقيِّ الذي في لُغزِهِ حَيَّرْ .
                                                                    شبابيكُ الدِّمشقيَّاتِ آهاتٌ مُضَفَّرةٌ من الألوانِ...
                                                                    حيثُ العشقُ للأهدابِ قد ضَفَّرْ .
                                                                    فتأخذُ بعضَها سِنَةٌ ...
                                                                    فتزجُرها ... التي تَسهَرْ .
                                                                    وأسوارُ البيوتِ شذاً ...
                                                                    من الليمونِ والنارنجِ منتصِبٌ...
                                                                    فهذا من هنا وارى ...
                                                                    وهذا من هنا سَوَّرْ .
                                                                    ***
                                                                    تُمَشِّطُ شعرَها النَّسَماتُ ...
                                                                    في حضنِ البيوتِ هناكَ...
                                                                    إنَّ المشطَ بالأسرارِ قد خَبَّرْ :
                                                                    تلعثمَ إذْ رأى نافورةً تبكي...
                                                                    وتحني رأسَها خَفَراً على صَدْرٍ من المرمرْ .
                                                                    وداليةً تُطيِلُ العُنْقَ...
                                                                    فوقَ جدارِ أفياءٍ – يمينَ الدارِ-
                                                                    ثم بلفتةِ الإغراءِ تمنحُ خدَّها للحائطِ الأيسرْ .
                                                                    وعنقوداً شدا شِعْراً...
                                                                    من الديوانِ يقرؤهُ...
                                                                    وعنقوداً له استظَهرْ .
                                                                    وأوراقاً على الأشجارِ ...
                                                                    تشربُ سُؤرَ بَوْساتٍ...
                                                                    من الطلِّ...
                                                                    الذي في الفجرِ يغشاها على عَجَلٍ ولا يَظْهرْ .
                                                                    تصابى الضوءُ ...
                                                                    فوقَ وسائدِ البِلَّورِ في الشُباكِ مرتبكاً...
                                                                    لِيفْضحَ ما رآهُ ...
                                                                    ولكنْ ... عادَ واستغفرْ .
                                                                    يُفَسِّرُ ما رأى مِِشطٌ ...
                                                                    فيدهشُنا ...
                                                                    وَرَغمَ براعةِ التأويلِ ... ما فَسَّرْ .
                                                                    ***
                                                                    دِمشقُ الشامُ ... أغنيتي...
                                                                    وحبي الخالدُ ... الأكبرْ .
                                                                    أنا ما زلتُ مُكْتظَّاً...
                                                                    بأفكارٍ من التفاحِ ...
                                                                    يهمي دمعُها بدمي...
                                                                    أنا التفاحُ ... ريشتُهُ إذا عَبَّرْ .
                                                                    "بلودانُ" التي قد عَرَّشتْ في خَصرِ قافيتي...
                                                                    نطاقاً من مواويلِ الهوى شوقاً...
                                                                    وَشَدَّتْهُ ...
                                                                    ورغمَ الشَّدِّ خَصْرُ الشِّعرِ لم يُكْسَرْ .
                                                                    ***
                                                                    وحُجرةُ جَدَّتي ما زلتُ أذكرُها...
                                                                    وخيطانُ الستائرِ...
                                                                    عندما ترفو جبينَ الشمسِ وقتَ الظُّهرِ ...
                                                                    في إِبَرٍ من الرَّيحانِ في رِفقٍ...
                                                                    تداوي النزفَ، توقِفُهُ من المَصدَرْ .
                                                                    أتوقُ لنقشةِ الجدرانِ ...
                                                                    للأرضيَّةِ الذَهبيةِ الألوانِ ...
                                                                    للسَّجادِ ...
                                                                    للدِّيباجِ...
                                                                    للثوبِ الحريريِّ...
                                                                    وياللهِ ... كم قلبي به ادَّثَّرْ .
                                                                    لسيفٍ عَلَّقتْهُ يدٌ من الأجدادِ...
                                                                    في خجلٍ أُقَبِّلُهُ...
                                                                    وأمسحُ حزنَهُ الأطْهَرْ .
                                                                    لِمتَّكأٍٍ تهجَّيْتُ النجومَ بهِ...
                                                                    وَدَوَّنتُ المجرَّاتِ ...
                                                                    اللّواتي اسَّاقطتْ جُمَلاً على كُرّاستي الزرقاءِ...
                                                                    هذي الزُّهرةُ الحسناءُ...
                                                                    في كرسيِّها الذهبيِّ حالمةٌ...
                                                                    وهذا المشتري يعلو على المنبرْ .
                                                                    أذوبُ أنا لذاكَ السُّلَّمِ الخشبيِّ..
                                                                    طَعَّمَهُ الزمانُ...
                                                                    فَحنَّ حتى صارَ مثلَ العودِ...
                                                                    أَنَّتُهُ ... مَقامُ "الشامِ"...
                                                                    في فنِّ يعودُ لهُ ولو غَيَّرْ .
                                                                    ***
                                                                    مساءَ الخيرِ يا حبلَ الغسيل غفا...
                                                                    على سقفٍ لهُ بالغيم آصِرةٌ ....
                                                                    وصاهَرَ بعضَ أفخاذٍ ...
                                                                    قبائلُها من الغيم الذي أَمْطَرْ .
                                                                    أقامَ علاقةً بالبدرِ ...
                                                                    يدعوهُ إذا أَقمرْ .
                                                                    ويُولِمُ في العشايا البيضِ مأدبةً ...
                                                                    لآلافِ السنونواتِ...
                                                                    يُطعِمُها (مناقيشَ الهوى) قد زانها السُّماقُ والزَّعترْ .
                                                                    ***
                                                                    مساءَ الخيرِ ... يا وطني...
                                                                    وتسألُني شحاريري...
                                                                    تصاحبُني على المَهجَرْ .
                                                                    لماذا أنتَ في (تمّوزَ)...
                                                                    حيثُ الصيفُ والأفراحُ ...
                                                                    تبدو بائسَ المَظهَرْ .
                                                                    لماذا الناسُ في (تمّوزَ) ...
                                                                    تحملُها حقائبُها ..
                                                                    لأوطانٍ بها تَفخَرْ .
                                                                    وأنتَ الهائمُ المفتونُ في وطنٍ..
                                                                    تًصوِّرُهُ وتفتنُنا به أكثرْ .
                                                                    تَظلُّ هنا ...
                                                                    حقيبةُ دمعكِ امتلأتْ ...
                                                                    وجرحُكِ شاخَ بلْ عَمَّرْ .
                                                                    ومُتَّكِئٌ على عكّازِ غربتِهِ...
                                                                    وأحنى ظَهرَهُ كِبَرٌ ...
                                                                    ومن عَجَبٍ بَرغمِ الشيبِ...
                                                                    تصهلُ خيلُ أحرفِهِ ... إذا أَشْعَرْ .
                                                                    عجيبٌ جرحُكَ المفتوحُ ...
                                                                    في نُبْلٍ يَشِيخُ وقلبُهُ أخضرْ .
                                                                    ***
                                                                    وتسألُني شحاريري مُكرِّرةً...
                                                                    ولا حَرَجٌ على الشُّحرورِ لو كَرَّرْ .
                                                                    لماذا أنتَ في (تموزَ) تبكي ثم تُبكينا...
                                                                    على الوطنِ الذي ما مثَلَه الإبداعُ قد قَدَّرْ .
                                                                    ***
                                                                    شحاريري ...
                                                                    رفاقَ الجرحِ ...
                                                                    لا سِرٌّ بأعماقي ولا مُضمَرْ .
                                                                    فإني في مراهقتي...
                                                                    كَتبتُ قصيدةً لَمْ تُعجبِ "القيصرْ ."
                                                                    كَتبتُ قصيدةً لَمْ تُعجبِ "القيصرْ ."
                                                                    ***