التعايش - محمد نجيب المراد

(عندما لا يندملُ جرحُ الذاكرة)
بثنيةُ زقزقةٌ من حنينْ .
وعصفورةٌ تنسجُ العُشَّ فوق غصونِِ الفؤاد...
وتفرشُهُ بالأنينْ .
وأغنيةٌ أوغلتْ في المقامِ الموسيقيِّ...
حتى جواب الجوابْ .
وطعنةُ ريحٍ لخَصرِ السحابْ .
ووهجٌ تجمَّعََ كالثلجِ فوق شفاهِي وذابْ .
بثنيةُ نقشٌ على ماءِ عيني...
فحرفٌ هنا وردةٌ...
وحرفٌ هنا ياسمينْ .
وكحلٌ من الشوقِ باكٍ حزينْ .
وهدبٌ وبلَّ صَداهُ الظَّما .
وأنطقهُ الصمتُ منذ الرحيلِ المفاجئِ...
صارَ بكاهُ... فَمَا .
أنا يا بثينةُ منذ الفراقِ...
يصفِّدُني في هواكِ الَّلمى .
وعشبُ شفاهِكِ فوق القيودِ نما .
***
لذاكَ اقتبستكِ...
ها لغتي دِيمَةٌ من طيوبٍ...
وها أسطريِ أورقتْ بالكتابَهْ .
وذا الطينُ يشهقُ بين يديَّ ويعرقُ...
لمّا أُدوزِنُ أوتارََهُ كالربابَهْ .
***
تخثَّرتِ فيَّ...
ومن رئتيَّ اتخذتِ وسادا .
ولذَّ لكِ الشِّعرُ ضمنَ سُباتِ العروقِ...
تنامينَ...
لكنني ما عرفتُ الرُّقادا .
***
حملتكِ ... كم هو صعبٌ على المرءِ حملُ صخورِ القمرْ .
وحملُ غبارِ النجومِ .. وصوتِ المطرْ .
وغاباتِ لوزٍ...
تًحضِّرُ قهوتَها للصباحِ الجميلِ إذا ما حَضَرْ .
حملتكِ...
كم هو صعبٌ على المرءِ حملُ الفراشاتِ...
وهْيَ تمشِّطُ شَعرَ الشَّجرْ .
وحملُ دموعِ العناقيدِ وقتَ السَّحَرْ .
***
حملتكِ حملََ الينابيعِ والنخلِ والقمحِ لما رحلْتُ...
فكلُّ حقائبِ قلبيَ خبزٌ وتمرٌ وماءْ .
ورائحةُ البنِّ والهالِ...
تصهلُ فيهِ ... وتملؤهُ كبرياءْ .
***
نَبَتِّ على جسرِ كِبْدي...
كمثلِ حشيشِ الربيعِ بضفَّةِ ماءْ .
فكانَ العبورُ عليه اغتسالاً...
بحبرِ الشقائقِ والأقحوانْ .
وصِرتُ إذا ما وقفتُ على شرفةِ الجسرِ.
أرنو إليكِ...
تكدَّس في الأفْقِ ألفُ كتابٍ على لغةِ الزعفرانْ .
فأقرأُ في أبجديةِ عطرِكِ فقهَ البساتينِ...
متناً وشرحاً...
وألفيَّةً كلُّ بيتٍ تزيّنُهُ وردتانْ .
***
وأني لأَسمعُ من شرفتي.
صراخَ انفتاقِ البراعمِ من وردةِ .
وصوتَ امتصاصِ البخارِ...
يدورُ بأوردةِ الموجة ِ.
وألمحُ في بؤبؤِ الضوءِ...
يمشي على قدميهِ الحَبَقْ .
فأشهدُ ما قال فيكِ ثناءً...
ويشهدُ ذاكَ الثناءُ الغَسَقْ .
وأشتَمُّ عبرَ المسافةِ بيني وبينكِ لونَ الشَّفَقْ .
فأكسرُ عند المساءِ جرارَ الحروفِ...
وأنثرُ آهاتِها ... في الورقْ .
فلا تسأليني....
لماذا حروفي إذا لامستْ دونَ قصدٍ...
جبينَ البياضِ...
تضوَّرَ شوقاً...
وأبرقَ ثم تأجَّج ثم تَفصَّدَ ثم ائتلقْ .
***
ولا تسأليني لماذا ...؟
وبيني وبينكِ أرضٌ وبحرُ .
وجُبٌّ وقافلةٌ لا تجيءُ...
ودَلوٌ ضريرٌ...
وحبلٌ قصيرٌ ... ومكرٌ وغَدْرُ .
فلا تسأليني لماذا ...
برغم شهادتِهمْ في القميصِ المزوِّرِ كيف أُصِّرُ .
"سيولدُ من ظلمةِ الجُبِّ فجرُ ".
فلا تسأليني ...
لأني أنا (يوسفٌ) لا النبيُّ...
وأنتِ ورغم تعدُّدِ اسمِ الأقاليمِ مصرُ .
***
ولمّا خرجتُ من الجُبِّ ... مَدَّ " الشَّمالُ" إليَّ اليَدا .
أتَتْني...
وَلَمَّتْ شَتاتيَ من فوهةِ الريحِ "إيلزا"...
وصدّت بكفِّ المحبةِ عني الرَّدى .
وأهدتْ إليَّ ضفيرتَها...
بلَّلتْها... بماءِ الندى .
وعطراً...
وربطةَ عُنْقٍ، وبدلةَ صوفٍ...
ومِنديلَها ... طرَّزتْهُ بحرَفَيْ حريرْ .
و(إيلزا) ولو تعلمونَ ... جمالٌ مثيرْ .
يرمِّمُ قبحَ المنافي المريرْ .
وهندسةٌ ... بين ضوءِ الرُّخامِ...
وهمسِ القطيفةِ تحتَ ظلالِ المرايا...
مزاوجةُ الحسنِ بينَ (المدبَّبِ) و (المستديرْ) .
و (إيلزا)...
تُدوِّخُ رأسَ العصافيرِ...
لما تَذَكَّرُ بيدرَ قمحٍ يحفِّزُها كي تطيرْ .
وتُشعِلُ نارَ الشرايينِ...
مثلَ اصطدامِ النيازكِ في سُرَّةِ الأرضِ...
تُخرِج منها الصنوبرَ...
يَغسلُ جنحيهِ بالضوءِ مثلَ الفراشِ بشكلٍ مثيرْ .
***
(وإيلزا) التي قد وصفتُ كهذا وأكثرُ...
قد طارحتني هواها الكبيرْ .
وقد صارحتني بهذا ...
ومُخمَلُ نظرتِها يقشعرُّ...
على خَفَرٍ في العَشاءِ الأخيرْ .
ووهجُ شموعِ يديها...
تَسارَعُ أنفاسُهُ كاحتدامِ الزفيرْ .
***
ولما دعتنيَ (إيلز) إلى خدرِها... في حلالٍ...
(بثينةُ) جاءتْ على عجلٍ قاسمتْنا السريرْ .
قاسمتْنا السريرْ .
***