فراشات متوحشة - عزالدين المناصرة

غَفَطْتُكِ تحت الكرمةِ،
كحَجلٍ مطمئنٍ تائهٍ ﻓﻲ الزرعْ
أخذتُكِ بالصفير، والتودُّد، والأغاني،
خُطوةً، خطوةً، حتى استرخيتِ كأفعى،
قَرّصتُكِ بقلبي، فارتعشتْ حبّات الحِصْرُمِ
واحتجَّ الندى، ورفرفتْ أقحواناتُ الفجر.
أيتها اللدنةُ، يا غزالةً من نحاسِ مراراتي،
أطاردُ الفراشات، كي أمتصَّ الألوان والغبار،
رحيقُك أغواني، فالتهمتُهُ ﻓﻲ تصلّب الشرايين،
أخذتُكِ بهدوءٍ على الدرجات المعشوشبة،
فابتهجتْ غابةُ الرذاذ،
وراقبني القندولُ، مثل الوشاة،
أما الأرانب البريَّة، فرمقتني بنظرةٍ خبيثة.
أخذتكِ بالصهيل، والسحرِ، وعسلِ الكلامْ
كان حصى البحر المبتلّ برغباتي
يصطكُّ من البرد، تحت أقدامنا النائمة.
أخذتكِ بالتعاويذ، والأرقام، والأماني
حين أمسكتِ بحصاةٍ ملساء من المعاركْ
فاضطربتْ مرجانةٌ بوشاحين،
ونجمةٌ بنهودٍ مشرئبة،
حين مددتُ يدي، ﻓﻲ عُبّكِ الغامضِ،
نهرتني بالصياح، أمام القبيلة:
يا لصَّ التفاحْ
يا لصَّ الرمَّانْ
رمّانُ صْديري فَتَّحْ،
مثل البركان
فاحذرْ.
أخذتكِ، كاليمام ﻓﻲ هدوء الغدير
مثل تدرّج الموجات المسافرات العائداتْ
يا فتنةً متنقلةً ﻓﻲ طلعْ الأشجار
أخذتك كقرصانٍ ماهرٍ
ظلَّ البحر، شاهداً على ذبولنا
النوارسُ ظلَّتْ تتبعنا بزعيق الأطفال
أنت مُمدّدةٌ مثل أفعى، تتشمّسُ قرب الرذاذْ
الصيّادون تغامزوا علينا ﻓﻲ المدى الأزرقْ
خامداً كنتُ كالصخرة البحرية السوداء ﻓﻲ صيدونْ
عند تخوم كنعان ... ﻓﻲ صيدونْ.
كنعانيّاتُ قلبي،
مُتنهداً، قال أﺑﻲ ﻓﻲ سِفْره العتيقْ
حوريّاتٌ ﻓﻲ قاع البحر، مُهرات المروجْ
ﻓﻲ البساتين يتباهين، بقُذلات الأقحوان
مَلْويّاتُ الضفائرِ، يتغامزنَ على النارنج
يرقُبنَ دقّات اللوعة ﻓﻲ الصدور
شآميّاتُ الصهيل ﻓﻲ غوطة شراييني
كلُّ ثغرٍ، برتقالةٌ تضحك، بأسنان الغزالات
تحت الصنوبرات الجَدَّات، يتقيَّلْنَ ﻓﻲ ظلال الثلج
كنعانيّاتُ السماح، والقرميد ﻓﻲ غابات الأعالي
كنعانياتُ مؤاب، يقرأن، توهّج حجر الانتصارات
شآميات الكرمل ﻓﻲ وحشة الأسر
كنعانيات حَرَمون المثلّجات ﻓﻲ كؤوس الرمّان
كنعانيات عيبال، والبحر الميّت، ونبيذ الأديرة
أيّها الموتُ الخنزير الوحشيُّ ... لماذا
لماذا تخطفه مني، قبل اللقاء؟!!
كنّا نمتطي الحنين على ظهور البغال
نقطع الخوف، بالحُداء، بسيوفنا اليمانية
غابات مريام، مبلولةٌ بدموع الوِرْوارْ
نحرث الطمأنينة، دون جوازات سفر
نطلُّ من – مادبا – الرائية، كالفلسطيّين القُدامى
نلمح القباب، والكروم، ونار الأعالي،
شجراتُ البلّوط، ﻓﻲ ممرّات – مَمْرا ... زرعناها
لماذا تسرق الشهد من أعمارنا القصيرة
دمهُ حليبٌ ﻓﻲ أثداء النجمات، من بنات نَعْش،
دمه قرنفل ﻓﻲ السفح، غديرٌ ﻓﻲ الوادي،
دمه عسَّاسُ الحدائق العامة، منذورٌ للزاوية،
دمه عُهدةٌ، دمه قبَّعةٌ على رأس حارس الليالي.
قلتُ للريح: يا ريحُ ... خبّئيني، قليلاً
قالت الريحُ: إنني دون دارْ
قلتُ للريح: يا ريحُ دثّريني، قليلاً
قالت الريحُ: وَرْطةُ الوردِ، أنه ﻓﻲ العلالي،
قال للشجيرات القديمات ﻓﻲ الحفْلِ: وشِّحْنَني،
ﺛﻢَّ ﻟﻢ يستطعْ، أن يداري فضيحَتَهُ بالقدودْ.
كم تلكأتُ، كيمامة عطشانةٍ، تحت شبابيك البحر،
كم توهجتُ كراعيةٍ قتيلةٍ، قبل أن يغتصبها القَصَبُ،
كم وقفتُ مُبتهجاً بحقدٍ دمويٍّ إغريقي،
عند درجات المغاور، تحت صليب النوم،
هؤلاء الشعراء الرعويّون أحبابي
يتكئون على أسرّة التماثيل ﻓﻲ عراء الحدائقِ،
كلُّ شاعرٍ يعرف، تاريخ طوبته المستطيلة،
يسكن فيها الضوء الأكحل، المُحنّط بالصلابة
بطيئةٌ مساماتي من شدّة الوقوف ﻓﻲ المفارقْ
بطيء قلبي الراكض، خلف حمامات السهوبْ
كلُّ ثعلبٍ يمرُّ بالتواءِ مشماس الجبل، صديقي
كلُّ الفراشات البطيئة، فوق طلعْ الزنبق، عشيقاتي
أتلذّذُ بارتكازاتها، تحت خاصرتي
أُمسمرها، ﺛﻢّ تَنْشقُّ فلقتين من ناري
ألطعُها بسيخِ انتقاماتي، ﻓﻲ خلاء الضجيج
ثمَّ مثل جوريةٍ حمراء، أشمُّها برفقٍ أخويٍّ حنونْ
ثمَّ أستعيدُ ملاعبي: ملعباً، ملعباً من شقائي.
شجرةً عتيقة، تدلُّ التائهين، كان أﺑﻲ
حارس البحر الميّت ﻓﻲ الأزماتْ
يُهندسُ المسافات، ويقلّم فوضاها
ﻓﻲ النهار، حيث الخوف صفاء، والنعيب مَوَدَّةْ
يرسم رؤوس تفّاحات النساء،
النساء، يا إلهي، كم أغوين أﺑﻲ،
عندما كان يقطع سهول حوران وجبال لبنان،
على فَرَسِه الحمامية اللون،
خلاخيلها من ذَهَبْ، ولجامُها من فضة،
حمامةٌ حطّتْ على كتفه الرصاصي
قُبَّرةٌ آنستهُ، طوال الطريق ﺇﻟﻰ سهل البقاعْ
جنادبُ القفر وقفتْ، على جانبي الدربْ
كلُّ حجرٍ أعطى إشارة التحية، حسب الفصولْ
النساء البيضُ المغسولات بالضوء والزيتون
النساءُ الملفوفات بأكمام البنفسج والعباءاتْ
نساءُ الطين المُجفّف، المرسومات ﻓﻲ القرميدْ
النساء النائمات على الطاولات،
المنقوشات ﻓﻲ الأفاريز،
كلُّهن ... مَرَرنَ، تحت خاصرة أﺑﻲ
شبعتَ من اللهاثِ، ﻭﻟﻢ تشبع الأرضُ يا أﺑﻲ.
أراه جالساً على عرشه الصنوبري ﻓﻲ العرزالْ
تاج الكرمة، فوق رأسه، وأثلام الحقول ﻓﻲ جبينهِ،
الدخان يغشاه، مثل كتيبةٍ ضالّةٍ ﻓﻲ الضباب،
البحر الميّت، يجثو عند قدميه، يمسح صُبَّاطَهُ،
ذؤابات النساء ﻓﻲ كفّيه، ﻓﻲ زجاجاتِ الأعالي،
النساء الوقوراتُ، النساء القدّيسات،
النساء المليئات بالخضوع الجليل ﻓﻲ الصباحات.
البحر الميّتُ ساحرٌ جميلٌ، يعشقهنَّ، ويتحسَّر،
يغنّين رجولته المفقودة، كي يستيقظ الرعد،
يغار البحر الميّت، مثل سفرجلة صفراء،
هزيمتُهُ طالتْ، فرثتْهُ نساءُ الينابيع،
كما يرثين، ضحاياهُنَّ ﻓﻲ الصبا،
تحت قش البيدر.
كان يقابلهنَّ، تحت زيتونة الوعر،
واحدةً، واحدةً، يلتهمهُنَّ كالإجاصاتْ
يتموَّهُ بالأعشاب، كي تنهمر الطمأنينةُ،
يصطادهنَّ بكلام معسولٍ، سرقَهُ من خلية النحلِ،
فإنْ أبتْ إحداهُنَّ، أو تمنَّعتْ، عايَرَها:
- يا عاقرُ يا بنتَ البحر الميّتْ
طعمُكِ ملحٌ، واللذّةُ ميتةٌ، مثل البركان الهامدْ
أين الأثداءُ الآراميّةُ، أين القمرُ الصاعدْ
أين جنونُ ضفائرك البيضْ.؟؟!!!
- يا قصبَ السُكَّر، لا تتباهى، رمحُك مكسورْ
ما زالتْ نهداي تَنِزّانِ،
كنبع حليب مغرورْ
- قُمْريَّةُ هذا الجبل العالي
ﻟﻢ يَمْسسْ أحدٌ هذا الغالي
غير الزعتر والزنبق، عند غدير الصفصافْ
- إن كنتَ شجاعاً، فاعزفني بين أصابعكَ،
وفَصْفِصْني، مثل حُبيْبات الرمَّانْ
ألحقكَ ﺇﻟﻰ الغار المهجور، أو الشلاَّلْ
- حفرة أيّامي ناشفةٌ، والبئر مُطيَّنةٌ،
بالشمع الأحمرْ،
أين المطر على الواحات، وأين السَحْجاتْ
إن كنتَ العاصفةَ الغاضبة النَوِّ، كما تزعمْ
فأنا البركانُ البكْرُ المرمرْ
فتقدّمْ للجولةِ، يا أخضرْ.
- حينئذٍ يقتاد أﺑﻲ فراشاته، تحت عوسجةٍ هرمة،
يَفْتَرِسُهُنَّ، كذئب مذعورْ
البحر الميّت، يَطُقُّ من الغيظ
وأنا أتفرج بين خرائب السَرْد الرائي.
- ها أنتَ الآن مبحرٌ ميّتٌ يا أﺑﻲ
حملوك على أكتاف السنديان ﺇﻟﻰ الوحشة
وها أنذا، أقطع المسافاتِ ﻓﻲ مواعيد اللغة
أستحضرك أمامي،
وأعاتبُ الموت العَقورْ.
صباحُنا ... فُلٌّ، وحَبُّ الملوكِ، يا أﺑﻲ.
صباحُكَ، خوخٌ، وزبيبٌ، وتوتْ.