الوقوف في جرش - محمد القيسي

وقفا نحك على أسوارها
بعض ما يوجع من أسرارها

ولنمل حينا من الوقت على
غابة تفضي إلى أغوارها

يا خليليّ فلم يبق سوى
ومضة أو قبس من نارها

ليس ما يسكنني الآن شجى
بل صبا الأحباب من تذكارها

نفرت عنّي ظبيات الحمى
وتسّربن إلى أشجارها

وتذوّقت النوى مشتعلا
وسكبت الروح في مزمارها

فكأنّ الحبّ ما كان ولا
كانت الأضلاع من سمّارها

يا خليليّ وما من نجمة
ضوّأت إلاّ على ابيارها

حمّلتني فوق ما أحمله
ورمتني بشظى زوّارها

يا خليليّ ولا تستعجلا
ما شفي القلب سوى غوّارها

فأعدّا لي بساطا أخضرا
واستراني بسنا أقمارها

لم يعد لي في الورى من وطن
فاحسباني من لظى نوّارها

***

لأقل إنّ أحبائي ينامون هنا

وعلى مقربة منّا ,

على باب جرش

و لأقل إنّي أشم الآن عطرا من دم ,

ما جفّ يوما وارتعش

باسمهم أجمع أوتاري وأبدأ

باسمهم أنزف لوني ,

أتلألأ

تحت شمس الجرح لكن ..

كيف لي أن أقتفي اللحظة غزلانا ,

على مدّ براري السنوات

باسم من يصعد الآن قلبي

إلى تلّة الهاوية

باسم من أرسم الجملة العاصية

أو أهزّ الستار

سأغنّي إذن

باسم من

باعني للقفار

وأتاني يتيم الضحى ونقش

إسمه جيدا قرب باب جرش

وأغنّي :

دفنّا أجمل الفتيان فيك
وقلنا يا صبّية هل نفيك

فمن أسقاك هذا الكأس مرّا
سقاني من لظاه بختم فيك

وقفت على طلولك في جلال
أريك من الهوى ما لا أريك

لئن طوّفت في البلدان عهدا
فقد كانت يداك هما شريكي

***

وأصمت لحظة , وأرى حبيبي

أراه هنا

أرى عينيه , قامته

وخطوته

أرى الشجر الكثيف ورقصة الأغصان

أرى في الفندق الصيفيّ مقعده

أرى يده ,

أرى ما يكتب النسيان

أرى ما كان يرسم أو يغنّي القلب والشفتان

أرى ما خطّ في يوم على كفّي من الكلمات

وأقرأه , وأعرف أنّ شيئا مات

وأنّ يديّ من حطب ,

وأني صرخة في أبعد الغابات

وأصمت لحظة وأرى حبيبي

وسنبلتين من قمح الجنوب

أرى برقوقة الوضّاح

على خدّيه ينتشر

أرى ما يفعل السفر

أرى التفاح

أرى أفقا

ونخلا لاح

فأصمت لحظة وأرى حبيبي

فمن أعطاه هذا الوهج ,

من أعطاه أيتها الشوارع نعمة السلوى

وأعطاني أنا الأقداح

***

لا عصافير هنا , لا طلقات

لا حبيبتي

أيّ نبع , موحش دون حبيبي

أيّ نهر ميّت ,

وأياد في الفراغ

يبست دون حبيبي

أيّ راع قادم بالماشية

أيّ درب كان يوما

في ضحى العمر قطوفا دانية

يا حبيبي

أيّها القلب تحسّر

أيّها النهر المبعثر

في حبيبي

أيهّا النبع الذي ما جفّ بعد

في نسيمات حبيبي

أيها الراعي المضيّع

قف قليلا وتجمّع

وتوزّع

باسم روحي ثانية

في شعاب البادية

واغفري لي يا جرش

اغفري ما كان من جهل وطيش

واسكني في وجعي

وتعالي وابدأي الرقص معي

في تراتيل حبيبي

ربما كنت مع الطعنة أوذي من أحب

ربما كنت مع الطلقة مفتونا

بما غاب طويلا عن يديّ

فإذا عاد إليّ

لم أر المطعون والموجوع مثلي

وإذا نيران أهلي

تقصف الروح وتنهال عليّ

ثم تذروني مع الريح بعيدا عن حبيبي

وقف القلب وحيدا يا جرش

وقف المغرب يبكي يا جرش

وقفت كلّ القرى

وقف النهر ومال

شجر الدفلى وقال :

لا عصافير هنا للمقصلة

لا عصافير هنا

لا عصافير هنا

أين يا أرض حبيبي

أين يا أحجار , يا آثار , يا أشجار ألقى ..

بعض أجزاء حبيبي

طوّف الأرض وما عاد حبيبي

طاف في كلّ المحّطات حبيبي

كان في الشبّاك , في الباب حبيبي

كان في الساحة والحفل حبيبي

كان في الدبكة والموّال والعرس حبيبي

كان يا ما كان أسبوعا من الرقص الغريب

كان يوما لحبيبي

ساعة للموت في حضن حبيبي

لحظة وانتهت الرقصة في صمت على وجه حبيبي

وغفا واستيقظت روحي

وما عاد حبيبي

أين يا أرض حبيبي

أين يا أرض حبيبي

واصلي عزفك لا تنتظريني
واملأي الأفق بعطر الياسمين

ودعيني في نواعيرك صوتا
أتملّى عمرك الآتي دعيني

شاهدا حيّا على أيقونة
أو رخام ها هنا أو كوم طين

ضوئي القنديل في العتم إذا
شاقك الحزن إلى رؤيا جبيني

تجديني مثلما كنت ندى
وعلى مرّ الثواني تجديني

****

كيف على مرذ الساعات تدور الأفلاك

كيف يجيء الصيف وأنت هناك

كيف يجيء الصيف ولا ألقاك

كيف أراك ؟

لغيابك وقع السيف ,

يقول دمي ويقول هواك

كيف يؤوب العشّاق من النزهة ,

فرحين ولا ألقاك

أو ينتشرون غزيرين على الطرقات ,

ولا ألقاك

كيف تسبّح في الأفق الأطيار ,

وتسبح في البحر الأسماك

تتمايل أعشاب الأرض إذا داعبها الريح ,

ولا ألقاك

وأنا لا أرضا أصل ولا أنساك

كيف يلوّن هذا الحنّون الأحمر وجه الأرض ,

وتزهر في الحقل شجيرات اللوز ,

ولا ألقاك

كيف تعرّج نحو السفح ,

ويمتليء الوادي بشذاك

تتسّرب في خضرة هذي الأوراق ,

وتنسلّ خفيفا في الريح ,

ولا ألقاك

وتنام وحيدا في الأحراش ,

وأبحث عنك ولا ألقاك

وإذا لاحت في البعد يداك

والتمعت عيناك

تحتفل الغابة ,

والأشجارتخف لمسراك

وأدوّر ولا ألقاك

كيف إذن يسعفني الإدراك

كيف أراك

كيف أراك

***

تشير لي أن أتبعك

أمشي معك

أمشي إلى الأفق

أمشي إلى حدود الورد

أمشي ولا ألقاك

أمشي إلى كلّ النواحي لا أرى من أحد

أمشي إليك

أمشي معك

أمشي ولا أراك

والآن أيّها الملاك

أريد أن أودّعك

أريد أن أردّ الروح لي ,

أن أنزعك

من دفتر الموتى

وأزرعك

في أيّ خيمة , أو منزل ,

وأسكبك

في كوب أضلاعي وأشربك

أريد أن أودّعك

أريد أن أودّعك

كي أستريح منك أو معك

أريد أن أودّعك

***

أكتفي بالكلام ,

فأخذ منك الكلام

أكتفي بالصدى

فيجيء الحمام

أكتفي بيديك اللتين

تزهران

وسط هذا الحطان

أكتفي بالغناء فيشرق فيك المكان

أكتفي بالقوام

أكتفي بالأصابع

أكتفي بالشوارع

أكتفي بالزحام

أكتفي أيّها الدم والأرجوان

أكتفي بالبريق

أكتفي بحجار الطريق

أكتفي بارتعاشة روحي وأسعى

أكتفي بالذي يكتفيه الغريق

أكتفي بالذي أكتفيه ,

فيفزع هذا الصنوبر منّي ,

ويفزع حتى الكلام

يفزع الصدر , كيف أنام

يفزع الأقحوان

يفزع العابرون إلى يومهم ,

في صباح الطعام

يفزع الباب والطاولة

تفزع الطاوله

يفزع المقعد الخشبي

يفزع الطير والريح , تفزع فيّ العظام

تفزع اليابسة

فاستقري إذن واهدأي

لا بديل ليومي

لا بديل لتفاحتي الناضجة

لا بديل

وإلى أبد الآبدين إلى أبد الآبدين ,

تظلّين لي

وتظلّين أنت اليمام

ابتدىء في الرماد

ابتدىء من ثياب الحداد

وابتدىء يا حبيبي

ابتدىء

كلّ شيء بدا

من خراب سبأ

ابتدىء كالبدايه

ابتدىء كالغوايه

ابتدىء من أساس السقيفة , من خرقة بالية

وابتدىء دالية

تشتريني في مزاد القلق

ابتدىء في الورق

ابتدىء في الأزقة والمدرسة

ابتدىء من يدي , واقتصدني

فمن يشتريني

ابتدىء يا حبيبي

يا حبيبي ابتدىء

ليس في هذه الأبنية

ما يضيء طريقي إليك , فمن يشتريني

خذ جبيني

لتكون الأغنية

خذ جبيني

خذ جبيني يا حبيبي

وابتدىء

***

ويقول هذا الصمت أحيانا

ويكمل ما أريد

فإذا سرحت ,

وحدّقت عيناي فيك ,

فلا جديد

وتنوب موسيقى المكان ,

تكون أنت ,

يكون عيد

ويكون أن تتعانق الأيدي ,

ولا يصل البريد

***

ويا حقلا من الدّراق

أتيناه

زمانا والرضا دفّاق

وتيّاه

بعدنا عنه في الآفاق

بعدنا ما نسيناه

وجبّأناه في الأحداق

وفي جنباتنا تتوالد الآه

سكبنا ظلّه العسليّ في الأوراق

فأنّ القلب في الأنحاء :

لكم هذا الهوى حرّاق !

وحين تنام عين الناس

وتشكو الروح منفاه

نجيء إليه مرتاعين والحرّاس

هنا انتشروا بلا عدد

هنا حبسوا إلى الأبد

ختام الوعد والإشراق

أيا حقلا من الدرّاق

على طرف من البلد

نظرت وليس من أحد

على جنباته يشتاق

لقد كان المحبّ هنا

وكانت ناره أسواق

وكان البيت مأهولا

فلم يغلق نوافذه

أمام الريح والطرّاق

فأين ثمارك الأولى

أيا حقلا من الدرّاق

لكم هذا الهوى حرّاق !

لكم هذا الهوى حرّاق !

***

وأسأل عنك البيوت

وأسأل عنك الصبايا

إلا من رأى في حواريّ جرش

فتى للمنايا

رأى ما رأى فاندهش

فتى كان قرآنه في الجبل

فتى ما ارتعش

فتى دافئا كالرذاذ ,

توزّع بين الغصون

وكان يغنّي , يموت

فتى ما وصل

وأسأل عنك البيوت

ألا من يدلّ خطاي إلى الملكوت

ألا من يدعني أمرّ لأبحث عنه وأبكيه ,

أو ألتقيه ,

وماذا لو أنّي سألت الحجارة

سألت الشجر

سألت الفلا عن حبيبي

سألت المؤرخ أين وضعت حبيبي

وكيف تزيّن لي هذه الواقعة

وماذا لو أنّي سألت جرش

وفتيانها

و سألت غيوم جرش

وفي كلّ حرش توّقفت ,

أو ملت حينا ,

إلى أنّة ضارعة

أو شققت الفضاء

وماذا لو أنّي ..

ألست حبيبي ,

فكيف إذن يا حبيبي تموت

أموت !

تراني أموت

ولا أزهر الآن في شتلة التبغ ,

أو في حقول الذرة

تراني أموت

وما زال ينبض صدر الكمان

بما يلهج العاشقان

تراني أموت ولا مغفرة

تراني أموت

ولا ألتقي بأحد

تراني أموت

ولا قبر لي مثلما تعرفين

فمن أين آتيك ,

من أين أعبر هذا النفق

وجسمي احترق

كما احترق العشب في لغتي

والغناء على شفتي

وبكاني الشفق

تراني أموت

فكيف سألقاك وسط البلد

وكيف أجيء

وحيدا

وكيف أضيء

قتامة يوم الأحد

وما بيننا العنكبوت

وهذا الدم , الجبروت

تراني أموت , أموت ,

أموت !

وما غبت , لكنّني نمت وقتا ,

وخلت بأنّك في حجرتي ,

ترقدين ,

وأنّي أزور سريرك ,

قلت قليلا وتستيقظين ,

ونشرب قهوتنا

أو نسّرح قطعاننا مع بزوغ الشعاع ,

ونجمع بعض الحطب

وكان الهديل

وكنت أناديك باسمك لكّنهم أقبلوا

وانتهيت إليك شظايا ..

ابتدأت الرحيل

وها أنا في زهرة التبغ ,

في سروة ,

أو يد ,

في ظلال التعب

ألوح دخانا ,

ألوح لهب

ولا يعرف الموت يومي , إسمعيني , اسمعي :

ما متّ هذا الموت أخدعه
وأظلّ أبدع في الدنا نقشي

مهما يحزذ الطوق من عنقي
والناس كلّ الناس تستعشي

يبقى لي اليوم الذي جهلوا
يبقى لعينيك أنّني أمشي

أستلّ من ناب الردى رمحا
وأصوغ من قحط الذرى عيشي

لي في الفضاء الحرّ منطلق
لي في المخيم عدّة العش

لي أنّني أبني على مهل ,
كوخي وأرفع من دمي عرشي

***

مثلما أية ساقية جبليّة

كنت أشقّ الطريق

يتخلّلني الحصى والشوك

التبر والتراب

تتخلّلني الأعشاب

طيبة وسامة

يتخلّلني القريب والغريب

البنفسج والعوسج

وتأتيني العصافير والأفاعي

وجنبا إلى جنب

كان ابن آوى

وكانت الحمامة

كانوا جميعا يحرصون على النفاذ إليّ

والزواج بي

كما يحرص الوالد على حفظ اسمه في إبن ,

أو حفيد

ومثلما يحرص الفلاح على محراثه

والسلحفاة على ثوبها الواقي

كنت أشقّ الطريق

وأكتم صراخي

أو أطلقه كأسير

كنت أسعى وسط هذا العرس الفقير

بلا جواد أو حجاب

لأصل إليك

حيث تنام وحيدا في الوادي

مجلّلا بالبياض

ومضيئا بنوري

***

فاعطني يدك الناعمة

راية لدمي

واعط للريح نكهة أيامنا القادمة

فلعلّي أرى أمي النائمة

ولعلّي أراك

مرة ثانية

يا أمير الهلاك

وأغيّر رنّة هذا النشيد إليك

نشيد يدك

أعطنيها

لأرى الحنطة فيها

لأرى عمري الذي ضاع ,

أرى الزعتر والنعناع ,

والكرم الذي يختال تيها

أعطنيها

أعطني أيامي الأولى وأغنيتي

أعطني معطف روحي

أعطني الإبريق مكسورا ,

وأعط الماء بئرا

واعطني آنية ,

أنت اصطفيها

يعتريني الآن صفصاف بعيد ,

وأرى ما يعتريها

يدك الضوء التي لم أنس ما قالت ,

أغانيها ,

وقد طوّفت فيها

إقرأيني واقرأيها

تجديني في خطوط العرض والطول ,

أسمّي كلّ يوم قبّرة

وأسمّي المجزرة

وأسمّي ما يليها

وابتعدنا , فإلى أين يدك

وابتعدنا فإلى أين حصانك

وانتظاري ,

وإلى أين غدك ,

***

أتوّقف في كاتدرائية أحزاني

وأحدّث غرناطة

من أيّ الأبواب إليك سأدخل ,

يا امرأتي الغافية بلا زنبق

يا منفى قلبي

يا صدري المغلق

يا رمّان المغرب إذ يتهدّل ياقوت

يا حبّ التوت

من أين إذن أتدّفق

في خاصرة الأزرق

يا امرأتي الغافية ,

سأفتح من روحي بابا

وأشق التابوت

ليكون الزنبق

***

غرناطة

آه يا غرناطة

يا نهرا يخفي عن عين الأعداء عياطه

القلب تجزّأ يا غرناطة

الصدر براه الهمّ طويلا يا غرناطة

الجسد هنا يذبل ,

والشّباك يئن , وتستجر الغابة

أغصانا ورياحا ,

وكآبة

وامرأتي تبكي

آه يا غرناطة

يا أختي المغتربه

في هذه العربه

هل سيكون لنا عتبة

غرناطة أيّتها الموجه

غرناطة يا قرميد البيت

يا أول حجر يسقط من غرفة نومي

غرناطة , آه يا غرناطة

ما أجمل وجهك

ما أبعده عنّي

ما أجمل هذي الخصل على سهل جبينك

ما أجمل هذي الخصلة

ما أجملك وأنت بعيدة

ما أجملك الليلة

وأنا استحضر فضّة صدرك ,

وأساور وخواتم أيامي

غرناطة ,

يا دمعا ينساب على الخدّين نحيلا

ويهزّ عظامي

ما أعذب رنّة يدك الصامتة معي

أية موسيقى تقطر وأنا ..

أنطق غرناطة حرفا حرفا

ما أجمل هذا الساعد

ما أجمل هذا الخصر

ما أجمل هذي السيقان

إذ تتنقّل من لبلاب الدار إلى

قصب الوديان

غرناطة

ما أجمل فرحي بك

وأرقّ عذاباتي

أنت جميلة

ويداي مراكب

والبحر بعيد يا غرناطة

البحر بعيد

وأنا من دون حبيب أو صاحب

أتوّقف في كاتدرائية أحزاني

أتجوّل فيك ,

وأسأل غرناطة عن غرناطة

***

عرّج على حاكورة العنب
واقطف عناقيدي ولا تهب

واسمع نشيد الأرض محتدما
واقرأ لذكري سورة الغضب

ما نام أهلي في الخليل ولا
هدأت هناك شرارة اللهب

وإذا وصلت إلى منازلنا
وتوجّعت عيناك يا ابن أبي

واصل طريقك غير منكسر
واحبس – فديتك – دمعة العرب

***

تعال كي أقبّلك

تعال كي أقبّلك

وأسألك

من أرسلك

من ظلّ حيا أو هلك ؟

ومن سلك

في ذمّة المنفى بلا فلك

تعال كي أقول لك

نشيدي العاري

خبزي وأشجاري

تعال إنّني وحيدة بلا يديك

وحيدة بلا سند

وحيدة بلا أحد

تعال أيّها الملك

هيأت لك

هيأت منهلك

هيأت أثمارك

طرزّت منزلك

باليلك الدامي

فكان منتهاك , كان أوّلك

تعال أيّها الملك

تعال من جرش

تعال من صبرا

تعال أيّها الملك

عيناي لك

وساعداي لك

والقلب يا معذّبي وما ملك

تعال كي أقبّلك

تعال أيّها الملك

***

خارج الكلام

خارج الجدل

خارج السروة المخيّمة

خارج الأحراش

خارج الشجر فيه

كانت تتكيء على رمح ذكرياتها

وترى إلى دم الأشياء

ترى إلى دم الأيام

ترى إلى النسيان

ترى إلى الخطى التي إمّحت

ترى إلى عينيّ كيف غامتا

في حضرة المكان

ترى وجودها

وحين زاد الصمت

واتّسعت هذي الرقعة

اتّسعت نظرتها

كانت أنوار البقعة

تصعد من خاصرة السفح إلينا

كان الجبل يعود إلى هيئته الأولى

والغابة تتزّين بالألوان

أخذت تركض

تركض في الريح

تركض كغزالة

تركض بين الأغصان

أو تتوقّف كي تنشد موّالا

أو أغنية

كانت تولد ثانية في عائلة أخرى

تدخل بيت الذكرى

تضحك في خفّة

كانت تنظر غربا , نحو الضفّة

آن توقّف سيل الضحك الرنّان

و توقّف في نظرتها الجبل ,

توقّف شلاّل الحركة

نهدت للصمت بلا توقيت

وبكت في عينيها الأشياء

***

أشربك الآن على جرعات

أشربك الآن

غصنا ملآن

وأرى كيف تجلّلك النيران

يا امرأتي

وأنا زوجك وابنك وأرى

كم تتوزّع فيك الأرض

بهجتها وأساها

تتوزّع فيك البلدان

تتألق فيك الطرقات

يتألق فيك الأطفال حنونين ,

وتبتهج الغابات

يتألق هذا الورد

وأراك بلا حد

كيف أقبّل هذي الوجنة , هذا الخد

كيف تراني منتشرا في الأنحاء ,

ولا يد

وبساتين حبيبي تمتدّ ‍

أشربك الآن على جرعات

أشربك الآن

أشربك حنينا ,

أشربك حياة

أشرب هذا الألق الريّان

والفرح الرنّان

نشرب هذا الكوب على مهل ,

نحن الإثنان

***

كانا على الشرفات طيفين

قرأ كتاب ( الغور ) ألفين

والريح من بين إلى بين

عصفت بحلمها فيا عيني

ما عاد بالشبّاك أو عادت

ما عاد طيرهما يغنّينا

ما عاد هذا الأفق نسرينا

هل كان في الأيام أم فينا

موت الهديل فآه يا عيني

ما عاد بالشبّاك أو عادت

ذهبت إلى أقفالها أمّي

وألغيت فيّاض ولا يهمي

وتجمّلت بيارق الهمّ

جمل المحامل ضاق يا عيني

ما عاد بالشبّاك أو عادت

***

وأخيرا يا جرش

وأخيرا يا أحبائي , أخيرا يا دمي

وأخيرا يا بنات

وأخيرا أيّها السرو الذي غطّى الرفات

أيّها الديجور , والبلّلور ,

يا اسفلت , يا منعطفات

يا أخي النائم , يا إبرة أمي ,

يا ثيابي

يا رغيف الخبز في البيت ,

إذا ما القلب جاع

يا شعاع

أيّها الكاتب والقارىء والأميّ والجنديّ ,

والدفلى

ويا صمت الملاك

أيّها الحارس يا عاديّ ,

يا حلو ,

أخيرا سيّداتي سادتي

يا رماحا كسّرت , أو لم تكسّر

يا رياحا وصدورا عرّيت ,

يا طعنات

يا لصوص

أيّها العشّاق , يا فستان , يا قمصان إخوتي , يا ماء

أيّها العصفور , يا أفق , أخيرا , يا جرش

أيّها الصيّاد , يا أولاد , يا حبّ ,

أخيرا يا ولد

أيّها الراقص والقنّاص والمقلاع , يا نعناع ,

يا كرم , أخيرا يا أجاص

يا نهار الحب , يا شبّاك ,

يا صدر فتى ,

يا صبيّة

يا سفرجل

وأخيرا يا بلد

وأخيرا أيّها الأسبوع , يا مجموع ,

يا ناس الأحد

وأخيرا يا جرش

جئت لم تحمل يدي إلا يدي

لأغني

ومعي أنت أغنّي

وحبيبي وأغنّي

وأغنّي