أحدِّثُ عنكَ الغيابَ - ناصر ثابت

(إلى رشيد غانم)
*
أنا آخرُ المتبقينَ في جوفِ هذا القِطارْ
وسُنبلتي قلقٌ في الفؤادِ
وإغفاءةٌ في التقهقرِ والإحتضارْ
وأنتَ أعدتَ ليَ النبضَ
بالرغمِ من أنَّ عينيكَ ما عادتا تسكنانِ حضيضَ البشرْ
وبالرغم من أنني لم أعدْ مولعاً (مثلما كنتُ) بالإنتصارْ
رأيتكَ تبدأني بالسَّلامْ
وكنتُ أنا واقفاً بين مِلحِ التعابير والإنهزامْ
فصَلّيتُ من أجلِ ألا أراكَ
لأني أخافُ من الميتينَ إذا مزجوا المَوتَ بالإبتسامْ
صَديقي العزيزْ،
أما زلتَ تذكرُ أيامَ كنا نرشُّ الدُّموعَ على الغائبين..؟
أنا لستُ أذكرُ، فالوطنُ الآنَ تنقصُه لذة الذكرياتْ
أراكَ تعودُ إلى حَيِّنا
بعدَ أن طرقَ العشقُ بابَكْ
حبيبةُ قلبكِ لم تبكِ
حين ارتكبتَ غيابَكْ
لماذا بكيتَ على شوكِها المستحيلِ؟
أيبكي الذي ماتَ طوعاً على بشرٍ زائلين؟
فماذا أصابَكْ؟
وكيفَ بربكَ أغلقتَ خلفكَ أنشودةً وستارْ؟
* * *
أنا آخرُ المتبقينَ في جَوفِ هذا القِطارْ
* * *
فراشاتُ قلبي تدورُ ببطءٍ شديدٍ
كساقية متعبة
أنا لم أعدْ شاعراً يا صديقي
لذلكَ لم أستطعْ (عندما متَّ) إلا الركونَ إلى الإنهيارْ
وكنتَ، وضحكتُك الطيبة
تقولان لي إنني سأكونُ نبياً من الشعر يوما
وها أنتَ تذهبُ في حالِ دربـِكْ
حينَ ابتسمتَ وأوقفتَ نبْضاتِ قلبِـِكْ
وما عدتَ عَصراً تهاتفني... مثلما كنتَ دوما
لنمسحَ وجهَ المقاهي، بجلستنا القيمة
وفي جعبتي قصتي ودفاتريَ المبهمة
وكان دخانُ الأراجيل يخلقُ في الجوِّ غيما
وأنت تجِّمعُ ذراتِ صمتكَ من رقصاتِ الطريق ِ
أنا لم أعدْ شاعراً يا صديقي
وما عدتُ أكتبُ في الحبِّ أيضاً
كما كنتُ دوما
وما عدتُ أسهرُ إلا قليلا
وما عدتُ أسكرُ إلا قليلا
وأصبحتُ (يا صاحبي) جامداً كالجدارْ
* * *
أنا آخرُ المتبقينَ في جوفِ هذا القطارْ
* * *
أتذكرُ أيامَ كنّا نُغيِّرُ لونَ السماءْ
ونمزجُ عطرَ الرياحِ بموجِ البحارْ؟
أتذكرُ أيامَ كنا نمزّقُ وردَ حَبيباتنا
وخمرتُنا مُرّةٌ تشبهُ الإنتحارْ؟
أتذكرُ كيفَ نسينا الذهابَ
إلى ما تقولُ الكنائسْ؟
وكيفَ حَرقنا أصابعَ آبائِنا؟
وكيفَ انتصرنا عليهم؟
وكيفَ ابتكرنا الدروبَ
وقلنا لأصحابنا لا تمرّوا؟
حصانُكَ كان أصيلا
وأنتَ صهيلُكَ شعرُ
وكانت سفينتنا طيبة
وما كان في أرضنا (كالحكاياتِ) بحرُ
وما كانَ في قلبنا ما يسرُّ
رحيلكَ
يا واحةَ العمرِ... مُرُّ
فإن دمي صَارَ ينقصُه الإخضرارْ
وصارتْ يدي ودفاترُ شعري... كأرضٍ بوارْ
* * *
أنا آخرُ المتبقين في جوفِ هذا القطارْ
* * *
غريباً... وحيداً
قطعتُ الصحاري
وسافرتُ بين الجبالِ التي تقتلُ الناسَ
واخترتُ أن أستعيدَ العصافيرَ
يا صاحبي
إنما يضحكُ الحظُّ للميتين
أقولُ:
عرفتكَ منذُ تجاذبكَ الموتُ.. أكثرْ
فأصبحتَ من يومِها
موغلاً في السموِّ الشتائي أكثرْ
وما عُدتَ تبرحني
في المساءِ
أيا مطرَ الشمسِ
يا قطراتِ الندى حين تُذبحُ فوق القرابينِ
أو فوقَ روح السفرجلْ
فيا ليتني ما عرفتكَ أكثرْ
ويا ليتني لم أشاهدْكَ تجلسُ بين الرمالِ وحيدا
كأنك ترفضُ أن تتذكرْ
كأن النوارسَ تأخذُ مِن لونِ عَينيك أحزانـَها
وأني أحدِّثُ تلك الكواكبِ عنكَ
وحينَ تغيبُ، أحدِّثُ عنكَ الغيابْ
وتنصتُ أنتَ لهذا الحوارْ
* * *
أنا آخر المتبقين في جوف هذا القطارْ
* * *
وأنتَ اتساعُ الغيومِ
التي تتمددُ عاريةً فوق هذا الأفق
وانت ارتطامُ الضياءِ ببدرِ الدُّجى حين ضلَّ المدارْ
اتذكرُه؟ سرقَ البحرَ في جيبهِ واستدارْ
قصيرٌ هو العمرُ
أيامُه تتساقطُ مثلَ المواويلِ
أو مثلَما يفعلُ البرتقالْ
وأفياؤه عَتمةٌ يتهدَّدُها الإنفجارْ
وأمضي أنا
موغلاً في الرحيل المعتقِ
أسبحُ في الهمِّ
يغسلـُني الحزنُ
من أثرِ الحزنِ
أو من هموم الكتابةْ
فأبدأُ يوميَ أغنيةً للكآبةْ
وأنهيهِ سوسنةً دُفنتْ في قبورٍ من الإنحدارْ
وأنتَ الصديقُ الوحيدُ الذي صارَ يجلسُ دوماً معي
منذُ أن غبتَ في موتكَ المستعارْ
فيأتي المساءُ عليَّ
وأبقى أنا آخرَ المتبقينَ في جوفِ هذا القطارْ
*
كاليفورنيا - 23 أيلول 2005