و ما بينهما ! - جمال مرسي

غِيَابٌ رَاحَ يُنذِرُ بِالغِيَابِ
حُضُورٌ جَاءَ يُنبِئُ بِاغتِرَابِي

يَنَابِيعٌ تَفَجَّرُ في ضُلُوعِي
و مَا زَالَ اللَّظَى يَكوِي إهَابِي

صَحَارَى التِّيهِ تَشرَبُ مِن عُيُونِي
ومَا زِلتُ المُحَدِّقَ فِي السَّرَابِ

أَطِيرُ عَلَى جَنَاحٍ مِن يَقِينٍ
لأَسقُطَ فِي دَيَاجِيرِ ارتِيَابِ

ويَجنَحُ بِي خَيَالٌ ، أنتِ فِيهِ
كَوَمضِ البَرقِ فِي عَينِ السَّحَابِ

عَلَى أَغصَانِكِ الخَضرَاءِ تَلهُو
فَرَاشَاتُ التَّمَرِّدِ و التَّصَابِي

و فِي جَنَّاتِكِ الفَيحَاءِ ، يَتلُو
حَمَامُكِ مَا تَسَطَّرَ فِي كِتَابِي

أَنَا نِصفَانِ ، نِصفٌ فِي هُدُوئِي
و نِصفٌ قَد تَوَارَى فِي عُبَابِي

أَنَا شَمسَانِ ، شَمسٌ فِي جَبِينِي
و شَمسٌ قَد أَشَعَّت فِي ثِيَابِي

أَنَا مَطَرٌ ، بِرَغمِ هَزِيمِ رَعدِي
بِهِ رَوَّيتُ أَزهَارَ الرَّوَابِي

أَنَا مَا كُنتُ ظِلاًّ ، بَيدَ أنِّي
أُظَلِّلُ مَن تَعثَّرَ مِن صِحَابِي

أَحِنُّ و لَستُ أَحنِي رَأسَ شِعرِي
و أَحنُو مَا حَيِيِتُ عَلَى المُصَابِ

سَلِي عَنِّي إِذَا أُنسِيتِ قَدرِي
أَنَا الحَادِي ، و غَيرِي فِي رِكَابِي

أُحِبُّكِ ، لَم تَزَل بِدِمَايَ تَسرِي
و فِي عَينَيَّ يَفضَحُني شِهَابِي

أُحِبُّكِ ، لا أُمَارِي فِي شُعُورِي
و مَا كُنتُ المُزَايِدَ و المُرَابِي

فَلاَ يَغرُرْكِ أَنِّي قَد تَنَاهَى
إِلَى عَيْنَيكِ حُبِّي و انتِسَابِي

و لا يَغرُرْكِ أَنَّكِ كُنتِ بَدراً
أَطَلَّ عَلَيَّ فِي لَيلِ اكتِئَابِ

فَإِن كُنتِ الأَمِيرَةَ فَوقَ عَرشِي
فَقَد شَيَّدتُ عَرشَكِ مِن شَبَابِي

وَهَبتُكِ مَا تَمَنَّى كُلُّ أُنثَى
و لَم أَحصُدْ سِوَى شَوكِ الغِيَابِ

مَنَحتُ لِقَلبِكِ الخَفَّاقِ نَبضِي
سَلِيهِ يُجِبْكِ يا ذَاتَ الحِجَابِ

سَلِي عَينَيكِ كَم كَفكَفتُ دَمعاً
و ثَغرَكِ كم تروَّى مِن رُضَابِي

سَلِي يُمنَاكِ كَم نَامَت بِكَفِّي
و خَوفَكِ كَم تَحَصَّنَ فِي هِضَابي

سَلِي اللَّيلَ الذِي نَهَشَ الأَمَانِي
بِمِخلَبِهِ ، و مَزَّقَهَا بِنَابِ

يُجِبْكِ بِأَنَّنِي مَن كُنتُ أَقضِي
عَلَيهِ ، بِلا سُيُوفٍ أو حِرابِ

و كَانَت ضِحْكَتِي تَنسَابُ فِيهِ
إِلَى أُذُنَيكِ كَالخَمرِ المُذَابِ

و كُنتُ أُضِيءُ كُلَّ شُمُوعِ قَلبِي
لأَجلِكِ فِي ذَهَابٍ أو إِيَابِ

و كَم سَهِرَتْ عَلَيكِ عُيُونُ شِعرِي
و نِمتِ عَلَى السَّكِينَةِ فِي جَنَابِي

أَيَا وَطَناً يَتِيهُ النِّيلُ فِيِهِ
أُعَاتبُهُ فَيُصغِي للعِتَابِ

و أَعزِفُ عِندَهُ لَحناً حَزِيناً
فَيَسحَرُنِي بِأَلحَانٍ عِذابِ

و أُغرِقُ فيِهِ كُلَّ سِنينِ يَأسِي
و أَستَهدِيِه يُلهِمُنِي صَوَابِي

أغارَ النيلُ ، أم ضلّت خطاهُ
و من كالنيلِ عوناً في المُصابِ ؟

أَتُوصِدُ كُلَّ بَابٍ في عُيُونِي
و فِي قَلبِي أُوَارِبُ كُلَّ بَابِ ؟

و تَترُكُنِي عَلَى وَلَهي وَحِيداً
أُفَتِّشُ فِي خَيَالِي عَن جَوَابِ