شوقي - علي محمود طه

هجر الأرض حين ملّ مقامه
و طوى العمر حيرة و سآمه

هيكل من حقيقة و خيال
ملك الحبّ و الجمال زمامه

ألهم الشعر أصغريه فرفّا
في فم الدّهر كوثرا و مدامه

سلسبيل من حكمة و بيان
فجّر الله منهما إلهامه

تأخذ القلب هزّة من تسا
قيه و ينسى بسحره آلامه

غمر الأرض رحمة و سلاما
و جلا الكون فتنة و وسامه

مالئا مسمع الوجود نشيدا
علّم الطّير لحنه و انسجامه

ماله و الزّمان مصغ إليه
ردّ أوتاره و حطمّ جامه؟

روّع الطّير يوم غاب عن الأيـ
ـك و سالت جراحها الملتامه

ما الذي شاقه إلى عالم الرّو
ح؟ أجل تلك روحه المستهامة!

راعها النّور و هي في ظلمة الكو
ن فخفّت إليه تطوي ظلامه

هي بنت السّماء و هو من الأرض
سليل نما التّراب عظامه

فاهتفوا باسمه فما مات لكنّ
آثر اليوم في السّماء مقامهّ

***

حدثتني الرّياض عنه صباحل
ما لصدّاحها جفا أنغامه؟

و شكا لي النّسيم أول يوم
لم يحمّله للحبيب سلامه

و تسمّعت للغدير ينادي
ما الذي عاق طيره و حيامه ؟

أتراه ترشفّ الفجر نورا
أم شفى من ندى الصّباح أوامه

و رأيت الجمال في شعب الوادي
ينادي بطاحه و إكامه

صارخا يستجير شاعره الشّا
دي و يدعو لفنّه رسّامه

فتلفّت باكيا و بعيني
شبح تخطر المنون أمامه

هتف القلب بالمنادين حولي
لقي الصّداح الطّروب حمامه

فاذكروا شدوه بكلّ صباح
و ارقبوا من خياله إلمامه

و املأو الأرض و السّماء هتافا
عله لم ير الصّباح فنامه

لم يرعني من جانب النّيل إلاّ
كرمة فةقها ترفّ غمامه

تحت ساجي ظلالها زهرة تبـ
ـكي و في فرعها تنوح حمامه

عرفتها عيني و ما أنكرتها
من ظلام و وحشة و جهامه

قلت يا كرمة ابن هاني سلاما
ليس للمرء في الحياة سلامه

نحن لو تعلمين أشباح ليل
عابر ينسخ الضّياء ظلامه

و الذي تلمحين من لهب الشّمـ
ـس غدا يطفئ الزّمان ضرامه

و الذي تبصرينه من نجوم
فلك يرصد القضاء نظامه

و المراد المدلّ الورد زهوا
كالذي أذبل الردّى أكمامه

عبثا تنشد الحياة خلودا
و نرجّي الصّبا و نبغي دوامه

إنّما الأرض قبرنا الواسع الرّحـ
ـب و في جوفه تطيب الإقامه

أودع القلب في آلامه الكبـ
ـرى و ألقى ببابه أحلامه

نسي النّاعمون فيه صباهم
و سلا المغرم المشوق غرامه

فامسحي الدّمع و ابسمي للمنايا
إنّ دنياك دمعة و ابتسامه !!

***

أيّها المسرح الحزين عزاء
قد فقدت الغداة أقوى دعامه

ذهب الشّعر الذي كنت تستو
حي و تستلهم الخلود كلامه

واهب الفنّ قلبه و قواه
و المصاب فيه ودّه و هيامه

ربّ ليل بجانبيك شهدنا
قصّة الدّهر روعة و فخامه

أسفر الشّعر عن روائعه فيها
و ألقى عن الخفاء لثامه

فأعد عهده و أحي لياليـ
ـه و جدّد على المدى أيّامه

و لك اليوم همّة في شباب
ملأوا العصر قوّة و همامه

نزلوا ساحة يشيدون للمجـ
ـد و شقّوا الحياة زحامه

فاذكروا نهضة البيان بأرض
أطلعت في سمائه أعلامه

إنّها أمة تغار على الفنّ
و ترعى عهوده و ذمامه

لم تزل مصر كعبة الشّعر في الشّر
ق، و في كفّها لواء الزّعامه

إنّ يوما يفوتها السّبق فيه
لهو يوم المعاد يوم القيامه !!