قاهر الموت - علي محمود طه

يا قاهر الموت كم للنفس أسرار؟
ذلّ الحديد لها ، و استخذت النّار

و أشفق البحر منها ، و هو طاغية
عات على ضربات الصّخر ، جبار

حواك أحدوثة مثلى و تضحية
لم تحوها سير أو ترو أخبار

رماك في جنبات اليمّ محترب
خافي المقاتل عند الرّوع فرار

ترصّدتك مراميه و لو وقعت
عليه عيناك لم تنقذه أقدار

يدبّ في مسبح الحيتان منسربا
و الغور داج و صدر البحر موّار

كدودة الأرض نور الشّمس يقتلها
و كم بها قتلت في الرّوض أزهار

هوى بك الفلك إلاّ هامة رفعت
لها من المجد إعظام و إكبار

و استقبل البحر صدرا حين لامسه
كادت عليه جبال الموج تنهار

و غاب كل مشيد غير قبّعة
ذكرى من الشّرف العلي و تذكار

ألقيتها ، فتلقى الموج مقعدها
كما تلقى جبين الفاتح الغار

و لو يرد زمان المعجزات بها
لانشق بحر لها ، و ارتدّ تيّار

كأنّها خطبة راعت مقاطعها
لها العوالم سمّاع و نظّار

تقول: لا كان لي ربّ و لا هتفت
بذكره الحرب، إن لم يؤخذ الثار

يا ابن البحار وليدا من مسابها
و يافعا يؤثر الجلّى و يختار

ما عالم الماء ؟ يا ربّان ، صفه لنا
فما تحيط به في الوهم أفكار !

و ما حياة الفتى فيه ؟ أتسلية
و راحة ؟ أم فجاءات و أخطار ؟

إذا السّفينة في أمواجه رقصت
على أهازيج غنّاهنّ إعصار

و أشجت السّحب موسيقاه، فاعتنقت
و أسدلت من خدور الشّهب أستار

و أنت ترنو وراء الأفق مبتسما
كما رنا نازح لاحت له الدّار

غرقان في حلم عذب تسلسله
من ذروة اللّيل أنواء و أمطار

يا عاشق البحر، حدّث عن مفاتنه
كم في لياليه للعشّاق أسمار ؟

ما ليلة الصّيف فبه ؟ ما روايتها؟
فالصّيف خمر ، و ألحان ، و أشعار

إذا النسائم من آفاقه انحدرت
و ضوّأت من كوى الظّلماء أنوار

و أقبلت عاريات من غلائلها
عرئس من بنات الجنّ أبكار

شغل الرّبابنة السّارين من قدم
تجلى بهنّ عشيّات و أسحار

يترعن كأسك من خمرة معتقة
البحر كهف لها ، و الدّهر خمّار

و أنت نعنهنّ مشغول بجارية
كأن أجراسها في الأذن قيثار

صوت الحبيبة قد فاضت خوالجها
و رنّحتها من الأشواق أسفار

و الهفّ قلبك لما اندكّ شامخها
و النّوء مصطرع و الموج هدّار

بوغتّ بالقدر المكتوب فانسرحت
عيناك تقرأ، و الأمواج أسطار

نزلتما البحر قبرا، حين ضمّكما
رفّت عليه من المرجان أشجار

نام الحبيبان في مثواه واتّسدا
جنبا لجنب، فلا ذلّ و لا عار !!

***

مصارع للفدائيين يعشقها
مستقتلون وراء البحر أحرار

منيّة كحياة ، كلما ذكّرت
تجدّدت لك في الأجيال أعمار

هي الفخار لشعب في خلائقه
خلق الرّجال إذا هاجته أخطار

له البحار بما اجتازت شواطؤها
و ما أجنته خلجان و أغوار

رواق مجد على جدرانه رفعت
للخالدين أماثيل و آثار

دخلت من بابه، و اجتزت ساحته
و سرت فيه على آثار من ساروا

يتيه باسمك في أقداسه نصب
رخامه الدّهر، و التّاريخ حفّار