بابا نويل - رشيد ياسين

تناولَتْ من أُمها قنينةََََََ الدواءْ
وقبّلتْ جبينها الذاوي
وسوَّتْ حولها الغطاءْ
وقبلَ أن تنْدسَّ في فراشها الباردْ
تغلغلت رطوبة ُ الحجرة في عظامِها
فالتصقتْ بالموقد الهامدْ
وأرسلتْ عبر الزجاج نظرةًًً حزينه:
كان دويّ ُ مَِرحٌ يُسمعُ في المدينه
وأسهمٌ نارية ٌ تصعد في الفضاءْ
مُطِلقةًَ في زرقة الليل ِ
نوافيرَ من الضياءْ !
وفي الزقاق ِ أوقفتْ مركبة ٌ هدبرَها ..
ثم تعالى لََغَط ٌ خفيفْ
وضاعَ في الجوارْ ...
فأيقنت أن البيوتَ حولها تستقبلُ الزّوّارْ !
وفجأةً أحست الصمت ثقيِلاً
وسََرَتْ في جسمها النحيفْ
رعدةُ خوفٍ ،
وبدا كأنّما الدنيا بما فيها من البهجة والأعيادْ
قد رحلتْ وخلّفتْها
في عَراءٍ باردٍ ، مخيف !
وفكرّت وهي تُديرُ إصبعاًً مقرورةً
في كومة الرمادْ :
"هاهي قد حَلَّتْ أخِيراً ليلة ُ الميلادْ !
" فهل سيأتي هذه المرّةَ في الموعدْ
" وكيسُه ملآن ُ بالأثواب والُلعَبْ ؟!...
"لكنني أخاف أن يغلبني النعاسُ والتَعَبْ
"والبردُ يشتدّ ُ ...ولا أحطابَ للموقدْ !
" لم أعرف الراحة َ منذ الفجر ِ...
"أصلحت ُ لأُمّي ثوبها العتيقْ ..
"جففتُ عنها عَرق الحمَّى
"واعددتُ لها الطعامْ..
"مسكينةٌ أُمّي !
محاها الداءُ محواً ، لم يَََدع منها سوى العِظامْ !
قالت بهمسٍ ، واعتراها شَجَنٌ عميقْ
وأفلتتْ من جفنها عَبْره :
"لا ! لا أريد لُعبة ً منه ولا رِداءْ !
"سأرتمي ضارعةً أمامهُ ..
"لعلّه يمنحها الشِفاءْ !
"لكنْ ...أآتٍ هو حقاً هذه المرهْ ؟!
" أم سيديرُ وجهه عن بابِنا ،
"مثل َ جميع الناس ؟!
"لا ، هو لن يفعل هذا !...
"كيف ينسى طفلة ً مجروحة الإحساس ْ
"ترقب أن يجىء منذ عامْ؟!
"لكنني يملؤني الخوف من النعاسْ !
"ماذا يقولُ لو رآى منزلنا يسوده الظلامْ ،
"موقده منطفىءٌ وأهلُهُ نيامْ ؟!
"ألن يعودَ غاضباً ؟..."
....والتمعت ْ في ذهنها فكره ْ :
"قد تستميل قلبه رسالة ٌ
"أتركها بجانب الشّباكْ
"لعله يلمحها هناك ْ
"إذا أجال َ طرفهُ في هذه الحجرهْ !"
***
رأته في منامها يجىءُ
في زحّافةٍ تجرّها الوعولْ!
كان كما يظهرُ في الصَُوَرْ
بلحيةٍ كالقطن في بياضِها
وطلعةٍ زهراءَ كالقَمرْ !
وثم ذرّاتٌ من الثلج على مِعطفِه المبلولْ.
ربَّتَ في لُطفٍ على مفرِقهِا وخدّها الشاحبْ
وقال : " لا تبتئسي ، يا طفلتي ،
"ما أنا بالغاضبْ .
"أعرف عنك كلّ شيء ، كلَّ احزانِكْ .
"وكل ما تَلقيْنَ من إذلال ْ
"وأنتِ ترتجفين برداً بين أقرانكْ
"بالجورب المثقوب والأسمال ْ!
" أدري بما كابدت ِ في يومك من نصبْ
"لتدرئي عن أمّك البائسة العناءْ !
" لا تحزني ،بنيّتي ..أٌمُك أحضرتُ لها الدواءْ
"وهذه كلّ هداياك ِ، هنا ، في هذه العُلَبْ !
في العلبة الأولى رأت ْ
خُفَّينِ ناعمين مشغولينِ بالفراءْ
وفوجئت في العلبة الأخرى
بمعطف ٍ رأته من خلف الزجاجِ مرةً
يسبح في الأضواءْ
في أحد المخازن ِ الكبرى !
وابتسم الشيخ الودودُ قائلاً ينبرةٍ عذْبَه:
"وهذه العُلبه
" تضمُ، يا صغيرتي ، الحلوى التي يحبّها الأطفالْ
"أدري ...لقد كتمتِ عني هذه الرغبه !
"أكنتِ تخشينَ من الإلحاح في السؤالْ ؟!
ولم تجد عبارة ً تقولها فقبّلت يَدَيهْ
واجهشت باكيةً فضمّها برقّةٍ إليه ْ
وعندما غادرها بكتْ من السعاده...
بكت إلى أن غرِقتْ بدمعها الوساده !
***
في غَبَشِ الفجر استبدتْ نوبةُُ السُعالْ
بأمّها فانتفضتْ مذعورةً ،
وفجأةً تذكّرتْ قنينة الدواء والهدايا
فالتفتت ملهوفةً تبحث في الزوايا ...
لكنها لم ترَ في العَتْمةِ من شيءٍ
سوى الحطامِ والأسمالْ !
وأطلقتْ شهقة َ حزن ٍ ،
ومضت ترنو بلا حَراكْ
حين رأتْ وريقةًَ مطوية ً بجانب الشبّاكْ !!
__________
بغداد 1986