يا نجمَ ميسان - عبدالرزاق عبدالواحد

(ألقيت في الاحتفال الكبير الذي أقامته محافظة ميسان على مدى يومين تكريماً لشاعرها في الذكرى السابعة والستين لولادته).

....

هذا نداؤكِ في سمعي، وفي بصَري
لبَّيكِ.. أيُّ جناحٍ فيَّ لم يَطِرِ؟!

مَن قال ننسى؟ .. نَسينا العمرَ أجمعَهُ
سوى عُمَيرٍ بسقفٍ منكِ مستَترِ‍!

وها أنا.. كلُّ أمواجي، وأشرعتي
تجري.. فَكُلِّي إليكِ الآن في سَفَرِ!

سرَقتُ ستَّةَ أعوامٍ وطرتُ بها
وعفتُ ستّين يستَعجلْنَ في أثَري!

يا ليتَ قافلةَ السّتّين لا وصلَتْ
لكنتُ طفلَكِ حتى آخر العُمُرِِ!

*

ميسان.. يا دائرَ الأفلاكِ لا تَدُرِ
عُدْ بي ثلاثةَ أيّامٍ إلى صِغَري!

إلى "السَّريةِ".. لي بيتٌ بزاويةٍ
فيها.. لِشَطِّ (على الغربي) إلى (المَجرِ)

لبيتِ جدّي.. وسِرْ هَوناً بساحتِهِ
كانت لنا سدرةٌ ممنوعةُ الثَّمَرِ

أموتْ شوقاً لها، لكنْ تُعذِّبُني
أفعىً عليها، فأبقى زائغَ النظَرِ

لليوم والنَّبقُ فيها ملءَ ذاكرتي
وفي حنيني إليها خوفُ مُنذَعِرِ‍!

*

يا نجمَ ميسان، واعُبْر بي نزورُ معاً
بيتاً (بقلعةِ صالح).. وَيْكَ لا تُنِرِ

لعلَّ عينَ ابنِ عبد الله غافيةٌ
للآن من كثرةِ الأرهاقِ والسَّهَرِ!

عُذْرَ الزيارةِ لم يؤذَنْ لصاحبها
أبا سنانٍ.. وإن بالَغتُ في حَذري

فبَيتُ مثلِكَ قدّيساً، لحُرمتِهِ
تجفُّ حتى أصابيعي على وتَري!

*

يا أهلَ ميسان.. هل بابٌ فأطرقُها
فتستديرُ على مصراعِها الخَفِرِ

وخلفَها صوتُ (مسعودٍ) يذوبُ جوىً
ومقلتانِ.. سفَحتُ العمرَ وهو طَري

على مَدارَيهما.. طفلاً بكيتُهما
لحينِ شاخَتْ عناقيدي على شجري!

وظلَّ (مسعود) حتى اليوم يسألني:
(وين الوَعَدْ وين)؟... يا مسعود.. لا تُثِرِ

أوجاعَنا.. نحنُ يا مسعودُ أهلُ هوىً
أكوامُ مبتدآتٍ دونَما خَبَرِ!

دارَ الزَّمانُ بنا عمراً بأكمَلِهِ
وعافنا بين مصدوعٍ، ومُنكِسِرِ

لا أهلُنا سألوا عنّا، ولا دمُنا
جفَّتْ بقاياهُ يا مسعود في الحُفَرِ!

*

ميسان.. لن أوقظَ الشكوى، فَبي فَرحٌ
أنّي أتيتُ وحبُّ الناسِ مُنتَظِري

سبَقْتُهُ، وائتزرتُ العمرَ أجمعَهُ
لكي أراكِ وكلُّ العمرِ في أُزُري!

أقول: هذا أنا الطفلُ الذي ركضَتْ
أقدامُهُ فيكِ.. في الشطآنِ والجُزُرِ

يا ما بَنَتْ قَطَراتُ الرَّملِ من يَدِهِ
أبياتَ حُبٍّ ولكنْ.. دونَما أُسَرِ

وظلَّ يحلُمُ عمراُ لو يؤثِّثُها
ويسألُ الله لو تغدو من الحَجَرِ

ليَستظلَّ بها من لا بيوتَ لهم
أنّى يكونون، من عَمروٍ، من عُمَرِ

وكان يَرهفُ مثلَ الصَّارمِ الذَّكَرِ
وراح يكتبُ شعراً موحِشَ النُّذُرِ

أضحى لـه قصَبُ الأهوارِ نايَ هوىً
وصار بَرديُّها زاداً على السَّفَرِ

فكم بذاكرةِ (الخرّيط) من وَجعٍ
وكم بها من حنينِ العُسرِ لليُسُرِ!

*

ميسان.. رُدِّي لهذا الشيخ بعضَ ندىً
ممّا جرى فيكِ من ينبوعِهِ الغَضِرِ

أيامَ رفَّ على الكحلاءِ مرتجفاً
كما يرفُّ جناحُ الطيرِ في المطرِ!

كانت شَواطيكِ مَرسى كلِّ أشرعتي
وما تزالُ قناديلي على كِبَري

ما قلتُ شعراً ولم تلمَعْ بقافيتي
نُجَيمَةٌ منكِ جَدْحَ النارِ بالشَّرَرِ!

أكادُ أشعرُ حتى في دبيبِ دمي
أجراسَ شَطِّكِ بين الصَّحوِ والخَدرِ

يُوقظْنَ أيَّ رنينٍ بين أوردتي
قَرْعَ النَّواقيسِ في مقفولَةِ الحُجَرِ!

تضجُّ حتى أضاليعي يَطْرنَ بها
دوامعاً بين مَشروخٍ، ومُنفَطرِ

مَن لي بها الآن في وِرْدي، وفي صَدَري
من لي بها وأنا في ذروةِ الكدَرِ

تُعيدني لبراءاتي.. لأدعيَتي
لنخلةٍ وَشِِمَتْ وشماً على قَدَري

مَن لي بها..؟.. ليت خيلَ العمر ما ركضَتْ
وليتَ قافلةَ السِّتِّين لم تَسِرِ!

*

ميسان.. هل قلتُ شيئاً تغضبينَ لَهُ؟
أخافُ من وجعي حيناً، ومن ضَجَري

وأنتِ لي وجَعٌ أبقى أنوءُ بهِ
منذُ ابنِ عامَين حتى آخرِ العُمُرِ!

أنتِ التي أرضعَتْني حبَّها، وبهِ
لمّا تَعلَّمتُ أمشي، قَوَّمتْ عَثَري

بالحبِّ، ثمَّ الأسى.. دَثَّرتنِي عُمُراً
وما أزالُ الأسى والحبُّ مدَّثَري

فكلُّ شعري، وحتى ما أثورُ بهِ
لولا جنونيَ فرطَ الحبِّ لم يَثُرِ!

يا نَبْعَةَ الطِّيبِ، يا مسدولَةَ السُّتُرِ
يا أمَّ أطيَبِ مَن في الأرضِ من بَشَرِ

ويا كريمَةَ نفسٍ، من طفولتِها
لليوم، تُطحنُها الدُّنيا، ولم تَجُرِ

بَلْ كلَّما ظُلِمَتْ زادتْ مروءتُها
وكلَّما ضُرَّتْ استعصَتْ على الضَررِ!

وكلَّما عصَرتْ أوجاعُها دمَها
ضجَّتْ، فلم تُعطِ تَنفيساً لمُعتَصِرِ‍!

*

ميسان.. واحتملِي نَزفي على كِبرَي
علَّمتنِي أنتِ.. مِن مَجرى دمي عِبَري

وأنتِ مجرى دمي.. هل تذكرين بهِ
كم، دون علمٍ، دخَلْنا دارةَ الخطَرِ؟!

ساءلتُ ذاكرةَ السّتّين.. هل بلغَتْ
حدَّ التَّورُّطِ في نسيانِها ذِكَري؟!

إنّي عهدتُكِ يا نيسان مملكةً
للماء.. ما اتَّكأتْ إلا على نَهَرِ!

عَهْدتُ زرعَكِ تَسبي العينَ خُضرتُهُ
للهِ بَيدرُهُ من بيدَرٍ نَضِرِ

عَهدْتُ أهلَكِ والأهدابُ حالمةٌ
كأنَّما زُرِعتْ في دارةِ القَمَرِ!

فما الذي سَلَبَ الأيام رونقَها
في مقلَتيكِ فسالَ الكحلُ في الحَوَرِ؟!

وما لكلِّ درابيني وأرصِفَتي
كأنَّها أسرفَتْ في الضِّيقِ والقِصَرِ؟

وكلُّ دارٍ بها أخفَتْ نوافذَها
وطأطأتْ سقفَها من شدَّةِ الحذَرِ!

من قبلِ ستِّين كنتِ الحُسنَ أجمعَهُ
هل شختِ ميسان؟ أم شاخَتْ يَدُ القدَرِ؟!

أم أنَّنا كلَّنا شاختْ معالمُنا
مِن وحشةِ العمرِ, أو من وحشةِ الغيَرِ!

***

ميسان.. لا تُطفئي قنديلَ أوردتي
حملتُهُ والهاً من أبعَدِ العُصُرِ

لكي أَضيءَ به عمراً مَلاعبُهُ
ما زلْنَ بين صناديقي, وفي صُرَري!

أفكُّها كلَّما اسوَدَّتْ يدي ندمَاً
لأستعيدَ اخضرارَ الماء في شجري!

كوني لقافيَتي ميسان أشرعةً
أو كالمشاحيف مُرِّي بي على صِغَري

لعلَّني حين أغفو أطمئنُّ على
إطباقِ كلِّ محاراتي على دُرَري!

_____________

هوامش

قلعة صالح : قضاء من أقضية ميسان عاش فيه العالم العراقي الكبير عبد الجبار عبد الله طفولته وصباه.

الخرّيط : نوع من الحلوى تصنع من ثمر البرديّ.