كثيرٌ من الموتِ نلعبُهُ كالقليل - علي ناصر كنانة

- إلى: سركون بولص
***
يرحلونَ ونرحلُ.. كلٌّ إلى حتفِهِ:
ذاكَ المبقّعِ بالدمِ
أو ذا الملطّخِ بالغربةِ القاتلةْ
وكثرٌ هُم الراحلونَ،
لكننا
- الاختلافُ الملّحُ في صفحاتِ المرايا –
قادمونَ على غيرِ خطوٍ
على غيرِ ما تشتهي الراحلةْ
من الموتِ كانَ كثيراً،
وكثيرٌ من الموتِ
نلعبُهُ كالقليلِ،
نشاكسُ في الموتِ سلطتَهُ
ونزهدُ حيثُ الحياةُ: الغوايةُ
وبينَ التطرّفِ أقصاهُ
والتطرّفِ أقصاهُ..
قصّتُنا نافلةْ
لكننا لا نفارقُها..
نتدّثرُ بالصورِ المشتهاةِ
والمفرداتِ الخليلةِ
والزمنِ المتكلّسِ فوقَ طموحاتِنا
ونغربُ عن لحظةٍ عاقلةْ
لنشرقَ في طبقاتِ الجنونِ:
الأصدقاءُ هناكَ..
والأهلُ..
وكلُّ الذينَ لنا صحبةٌ..
والـ..خيولهمُ صائلةْ
الحزنُ نطفةُ أمشاجِنا..
والجنونُ نصنعُهُ نحنُ..
تلكَ حرفتُنا..
القضايا الكبيرةُ:
أصغرَها ما نرى..
والشؤون الصغيرةُ
- راقت لنا - هائلةْ
ندركُ أنّ الملابسَ أكثرُ عرياً
وإنّ الجمالَ ذا لغةٌ،
أعينُنا ما تقول..
والراحلونَ كالقادمينَ
والمتضخمّاتُ أوهامُنا
بعضُ أحلامِنا الناحلةْ
يخرجُ الآخرونَ.. وندخلُ..
يدخلُ الآخرون.. ونخرجُ..
الداخلونَ نحنُ والخارجونْ..
وما بينَ هذا الدخولِ
وذاكَ الخروجِ
تبقى المسافةُ بينهما قاحلةْ
الذكرياتُ تخلعُ أثوابَها
والحنينُ كوخٌ يضيقُ
شيئاً فشيئاً..
والذي قُيلَ..
ثانيةً قيلَ..
لم تبرحْ القائلةْ
أنّى لنا..!
العمرُ أقصرُ مما يُرادُ
والقهرُ أطولُ مما يطاقُ
والموتُ غربانُهُ عاجلةْ
النوافذُ مغلقةٌ جيداً
والبابُ موصدةٌ
والحكاياتُ أغلبُها حائلةْ
الأوانُ الذي لم يحنْ:
لا تباشيرَ..
ما كانَ حانَ..
وإنّ الرحيلَ إلى النفسِ
أصدقُ من كذبةِ القافلةْ
وقوفاً أمامَ الجدارِ:
ينتحرُ الصبرُ،
يخلعُ اليائسونَ أحلامَهم،
واليقرأونَ الحياةَ
من آخرِ الصفحاتِ
يبنونَ في النفسِ
مملكةً عادلةْ
إنها لعبةُ الأسئلةْ
يلعبُها البعضُ
مثلَ القمارِ
وبعضٌ يراكمُ
أسئلةً.. أسئلةْ
والجوابُ الوحيدُ المناسبُ
أكبرُ من معضلةْ:
أسئلةٌ تتناسلُ من أسئلةْ
نقيمُ بها..
مشرِعينَ نوافذَنا
للحكاياتِ تخرجُ منّا..
ونملُ الخرافةِ
يندّسُ في الفيءِ..
أقدامُنا لا تلامسُ أرضاً
وأفكارُنا خاملةْ
الهازلونَ
إذا الجدُّ جدَّ،
ونبدو وقورينَ
في اللحظةِ الهازلةْ
نتفلسفُ حتى القيامةِ
إنَّ الحقيقةَ وهمٌ
ونهتفُ للمُثلِ الزائلةْ
يا لسطوةِ هذي الخسارةِ
كيف نهربُ منها
وكيفَ الخرافةُ
في آخرِ الهمِّ تنقِذُنا
وكيفَ نسير خارجَ أنفسِنا
مثخَنينَ بالطعناتِ..
لا شيءَ يشفعُ شيئاً
وكلٌّ يداري خطيئتَهُ
وأشياؤنا العاجلةْ
مثلُ أحلامِنا الآجلةْ
من الولادةِ للموتِ
أحلامُنا آجلةْ!
يرحمُ اللهُ أمي التي لم ترَ
في البدايةِ أو في النهايةِ
ما علّلوها بهِ
ومضتْ آملةْ
هكذا..
منذُ بدءِ الخليقةِ
لم تتغيّر المسألةْ
الخاسرونَ هم الخاسرونَ
والظافرونَ أنفسُهم
والكلامُ الكثيرُ
والنظرياتُ هي النظرياتُ..
والوهمُ منذُ تَفَلْطنَ
تذبحُنا "المدنُ الفاضلةْ"!
والواقعُ الاحتفاليُّ
يراكمُ خلفَ الكواليسِ
مقصلةً تسندُها مقصلةْ
ليتَني أنكرُ هذا الغثاءَ
وأخلقُ من خطوتي
وطنـاً
أصغرَ من باحةِ السجنِ
وأكبرَ من فتحةِ القبرِ
أؤوي إليه:
أقرأُ ما شئتُ
وأكتبُ ما شئتُ
والآخرونَ حصنُ القداسةِ
كي نتكاملَ..
أراقبُ وردَ الحديقةِ
قدّامَ بيتيَ،
من شرفةِ البيتِ
أردُّ السلامَ على العابرينَ،
أنادمُ جاريَ،
أشربُ في العصرِ شايَ الصديقِ
وأخرجُ في ليلِ بغدادَ
- يسحرُني -
أو أغلقُ البابَ
كي أستريحَ بلا قلقٍ:
أنْ رجلاً كالحَ الوجهِ
يطرقُهُ،
يحملُ تحتَ سترتِهِ
كاتمَ الصوتِ.
وأغفوَ..
ثم أفيقُ..
أمارسُ ما كنتُ أفعلُ أمساً..
لا شيءَ أكثرَ..
لا أبتغي المستحيلَ
- كم يفرِطُ الحاكمونَ في ظلمِهم!-
إنما هو أمرٌ بسيطٌ
إنما هو أن يتركوني وشأنيَ
حرّاً أروحُ
وحرّاً أجيءُ
وحرّاً إلى حيثما يذهبُ الراحلونَ
وحرّاً.. إلى حيثما تنتهي المهزلةْ.
*
29/1/2008