تـراتيـل لـوعــة الـزنبـق - علي ناصر كنانة

-1-
مختتقٌ بالتأملِ
تنشجُ من فرطِ حرقتهِا الاسئلةْ
مطفأةٌ في الحديقةِ
أبهى الفوانيسِ
وخافتُها ما تبقّى
وبالعتمةِ العشبُ مدّثراً بالصقيع.
والفراشاتُ تسأل أزهارَها
عن رحيقْ.
عينايَ
مجهضتانِ
وحالمتانِ
وكفُّ الظلامِ
تسبّلُ جفنيهما.
- لا تـمنح النورَ عكازةٌ
والخفافيشُ مهووسةٌ
والبعوضُ مطرْ.
*
خلايايَ مكتظّةٌ بالتأملِ
ما بينَ بابينِ موصدتينِ
ونافذةٍ للهروبِ
تختارُ موتاً.
*
الصمُت كالرعدِ
يجّتثُ جرثومةَ الخوفِ
من جذرِ روحي
ويبثرُ تحت المساماتِ
نارَ الشظايا.
*
أزيحي حجابك
"دنيا زوال"!
فأيُّ القبور
سترضى قتيلاً
تأبّطَ تحت الجبينِ
سخامَ الزمنْ..؟
وأيُ الشواهدِ تبقى..؟
بعمرينِ نعشقُ
إن شاءَ حلمٌ
وإن شاءَ - محتضراً - عاشقٌ
فالمنايا.
نصرُّ السنَينَ بكيسٍ
ونسحلُها كخروفٍ
لننحرّها تحت نعلِ الوطنْ.
*
-2-
هي الأرضُ : بابلُ
ذاتُ الولودةِ
أثداؤها ماطراتٌ
وحجرٌ رحيبٌ.. صبورٌ
يضّمُ اللظى والجليدْ.
فماذا تغيّرَ..؟
أنتَ؟
ترمي حصاةً
وتكسرُ نافذةً..؟
للرياحِ صفيرْ.
أنت..
أنتَ بالذاتِ..
ترمي حصاةً
وتكسرُ نافذةً!
...................
...................
.....................
يا نبوخذَ نصّر..
حمورابي..
يا....
يا....
يا....
يا....
والقادمون الهوينى!
أيّها الغائبونْ..
قبلَ أن يقتلوا في العيونِ الشهادةَ،
أنا الشاهدُ.. برداءِ الغريقْ
شهدتُ:
تحتَ جزمةِ السلطانِ
خرقةً ممزقهْ
أنا الذي - نمتْ
من دمهِ
على العيونِ زنبقةْ
رهاني - مرةً اخرى - دمي.
*
-3-
نملاً يهيمونَ.. زحفاً..
وأحذيةٌ لا ترى ما تدوسْ
الموائد مبذولةٌ للذبابْ،
الكراسي العتيدةُ شاختْ
بريقُ الطلاءِ غزتْهُ الرطوبةُ
متخمةٌ دودةُ العّثِ
والليلُ ناقوسْ
الشارع المدلهُّم
يفيضُ سكارىُ
وقوماً حيارى
وكرشاً يزاحمُ كرشاً
وتجّارَ شعرٍ
وصخباً يضاهي السكوتَ
ووجهاً هزوءاً
وجمعاً عبوسْ
المعابرُ ذاتُ المعابرِ
والشطُ حيرانُ
إذ "شهرزادُ" تكفُّ
وتبصقُ عن رغبةٍ في الرحيل!
*
-4-
تنوء الشوارعُ بالقارِ
والناسُ نثرُ حصى.
في ساحةٍ.. قطُرها خيبةٌ
لا حشائشَ..
لا آسَ..
لا زهرَ..
كانوا يدورونَ
ـ مثل النواعيرِ-
والنهرُ جافْ
يشمّونَ سيقانَهم
في الفجيعةِ غاصتْ،
ملوثةٌ بالبصاق أطرافُهم
والثكالى تقيءُ المرارةَ..
أسألهم: ما دهاكم..؟!
وأسمعُ همهمةً من نفورْ
ويهمسُ شيخٌ بأذني:
- نخاف..
إبتعد من هنا..
فالجفاف..!!
*
-5-
لعلّ الشواطىَء تحفظُ
أقدامَ عشاّقها
وتبسطُ جنحاً
يحلّقُ عمقاً
ليكشفَ ألغازَ أمواجها
لأني وجدتُ الشواطىءَ
موحشةً..
عاتبتْ.. إذ رأتْني.
بعينيّ هاتين
شاهدتُ
قيحَ الجراحِ على جلدها
وآثارَ عشاقها الغائبينْ.
عاتبتْ
وبكتْ
حرقةً من حنينْ
حارقاً كان قارُ الطريق.
عارياً
حافياً
جرّدتني النوارسُ من حِلّتي
ثم ألقتْ عليَّ رداءَ اليتمْ.
صاحبي لم يخنْ..
أو يجنْ.
نبشتُ الرمالَ
تحريتُ ليل الخرائبِ...
دونَ صدى
ساءلتُ زنبقةً من دمٍ
فانحنى عنقُها
ذرفتْ قطرةً من ندى.
*
-6-
صادفتْني فتاةٌ
لها هيبةُ البحرِ، فارعةٌ..
حدّقت في ثيابي
بعينين ماسيتين،
توّدُ مناداتي بالأسم.. كانت،
برهةً.. حين غابت،
تلقفتُ
ظلَ ابتسامةِ.. وجهٍ أليفْ.
*
-7-
يتّنردُ ثعبانان بزاوية المقهى،
ذئابٌ تولغُ خمراً في الحانة،
تنبحُ خلف الجدرانِ كلابْ،
الشرطةُ تقلق من شرطيّ غامض!
الشك يراقبهُ الشكُ،
وزرقةُ الخواءِ توشمُ الجباهْ
زفيُرهُ - الوباءُ - يزكُم الوليدْ
ويحقنْ الوريَد بالخواءْ
وترجمُ العشاقَ
- كالشياطينِ - حجارُة الجنونْ
صّفاً...
من السماءِ للقبورِ:
مخبروَن.. مخبرونْ!
(قد اشتروا المنافي
فأين تذهبون.؟)
منفيونَ.. يا للهولِ
في الداخلِ.. والخارجِ... منفيوّن...
*
-8-
جبلٌ قانٍ
ودمٌ يتلوّى..
بين دبيبِ الرخوِ
وتفتيتِ الحيرةِ:
شريانك ينزفُ من شرياني.
سفوحٌ تفقد بهجتَها
وحمار ينهق فيها
والوادي يدّوي:
- يا بلوطَ.. ويا توتْ!
ما هذا المخبوءُ ببئري
يبحث عن ياقوتْ..؟!
- الطلقةُ خائبةٌ
والليلُ خؤونْ.
شريانٌ
يثأر من شريانْ
والجسُد النازفُ واحدْ.
وخلف التلِ
يسوقُ البومُ
قطيعَ ذئابْ.
*
-9-
الزورقُ يحضنُ جنداً ضجرينْ
مكتنزينّ بحّب الماءِ
وبُغضِ الحوتْ.
بجلد الذعر
يلوذُ البرديُّ
وعوُد ثقابٍ أحمق
يخلعُ تاجَ الهورْ.
الليل بعوضٌ.. ودويُّ قذائفْ..
والرصدُ: قلقْ..
فالماءُ حدوٌد.. والحدُّ : كرامةْ.
الزورقُ أشلاءٌ.. والجندُّ:.. إدانةْ.
وعيونُ شهيدٍ لم تغمضْ..
وأصابعُ آخرَ
ترسَم فوق السطحِ
خطوطا ًغامضةً كالشّكِ
تبّينَ منها:
حوتٌ
يثأرُ من حوتْ.
*
-10-
أيّها النفطُ.. لا كنتَ..!!
قمصاننا.. لوّثتْها البقعْ.
والقصائدُ
شجّتْ خياشيمها بالزيوتْ،
والشهيُق الذى
لقّحَ العشقَ عند الصبى
سممّ الغازُ أنفاسَهُ،
والضمائرُ - مثل المراكبِ -
معطوبةٌ في وحول المرافيء.
لا كنتَ يا نفطُ!
(رأيتُ الناسَ قد شطّوا
إلى مَن عنده نفطُ)
لا كنتَ يا نفطُ..!
تكسي الأميرةَ ماساً
وتخلعُ أسمالَ عُريي!!؟
*
-11-
- دعْني اسمعُ أغنيتي.
- العمرُ طويلٌ.. والحزنُ أكيٌد.. يا ولدي
ما بكَ لا تفرحُ تلك اللحظةَ..
من زمنٍ كالحْ..؟
- "حلّوةْ.. تبّكيْ".
- أغنيةٌ تبكيكَ..؟
أصغرُ من كأسِ الحزنِ
بعمرِ الوردِ
وتبكيكَ أغاني الهجرْ..؟
فأيُّ مآسٍ
قادتكَ لقضم الصّبار..؟
سأخلعُ عمري - عليكَ
رداءَ العشب
وترقصُ غابةْ
ستصدحُ:
- والتابوتُ يحاذيكَ -
نشيدَ مهابةْ:
(لاحتْ رؤوسُ الحرابِ
تلمعُ بين الروابي).
*
-12-
حقبٌ من سلاطينَ
- سبحانَ خالقُهم! -
دمٌ وجواري
خمرٌ وأمرُ
رماحٌ مسدّدةٌ للمرايا
وأكوامٌ من الاسفنجِ
فالتاريخُ مكياجٌ
لوجهِ أميرةِ القصرِ،
بأنواعِ السوائلِ
عُبئّتْ أمعاؤهُ
حتى يقيىء..
ماءً كان،
رملاً،
ثم أوراماً ونزفاً،
ثم نفطاً،
ثم باروداً
إذا ما هدأتْ حمأتُهُ
سوّوهُ "مومسْ".
*
-13-
دماءٌ مفصّدةٌ خلفَ خطوي
ورملٌ يغّبرُ حلمَ الزنابقِ،
تحت الثيابِ الزواحفُ،
طيّ الحذاءِ إفعوانْ!
أيا وعدُ
خابتْ وعودٌ!!
أتتركنا للزمانْ..؟!
أيا وعدُ
هذي القوافلُ عائمةٌ في السرابْ
وشيخُ القبيلةِ.. وإلابل ظمأى..
يغازلْ هودَجهُ
عذراءَ في حّلةٍ من دماءْ
أيا وعدُ
سوَقاً.. تُساقُ المدائنُ للذبحِ
أشجارُها ذاوياتٌ
وأطيارُها حفنةٌ من رمادْ
مقاهٍ مساجدُها
وخيامُ المآتمِ...
لا دمعةً للبكاءْ.
أيها الوعَدُ.. لا تنكمشْ..
طافحاً.. فاضَ كيلُ الهوان
طافحاً..
فاضَ..
كيلُ الهوانْ!!
و.. تتركنا للهوانْ؟؟!
*
-14-
نفشَ الصقرُ جناحيهِ
تهاوتْ غيمةً ماطرةً
عيناهُ،
نزَفُ الجرح قانٍ،
خانتْ الطلقةُ
والحقلُ بوارْ
يا عصافير
إخلعي عنك المناقيرَ
إغرزيها في جذوعِ النخلِ
فالأ عشاش لا تشكو من الوحشةِ
والأفراخُ لو زقزقتْ الليلةَ
تقعي المزنةُ الثكلى:
صلاةَ الثأرِ
"فالموتُ قطارْ"
يهرشُ الجثةَ مهووساً
بحدّ الليلِ
والناسُ صفوفاً
في المحطاتِ
بحلم الانتظارْ
أيقظي موتاك يا أجداثُ
فالفينيقُ كفٌ من رمادٍ
في وجوهِ الصمتِ
يستنهضُ في ما مات.. نارْ
تزحفُ الجدباءُ للبحرِ
أو البحُر غضوباً
ينثرُ الغيثَ سخيناً
في لهاثاتِ الديارْ
لا أمام الموت
إلا الموت
غارٌ تاجُكَ البرّاقُ
أو يعلوك عارْ
أيقظي موتاكِ
يا أجداث!
فالعارُ ولو تُوّجَ رباً
هوَ عارْ.
*
-15-
إمنحوا النبتةَ ماءً وضياءْ
إمنحوا الطيَر فضاءً وفننْ
إمنحوا النهرَ صفاءً وعذوبةْ
امنحوا البحر هدوءاً ومراكبْ
امنحوا الشارع أزهاراً وبهجةْ
امنحوا الضائعَ عنواناً وقبِلةْ
امنحوا العين سروراً وبريقْ
امنحوا العاشقَ وقتاً للقاءْ
امنحوا الزهرَة إخلاص الفراشةْ
امنحوا الصبيانَ كتباً وملاعبْ
امنحوا الميتَ دفئاً للرقادْ
امنحوا اللاجىءَ أرضاً غُصبتْ
امنحوا الحربَ سكوتا أبدّياً
امنحوا العالم سِلماً ووئاماً
امنحوا النملةَ حقّ الكائنِ الحيّْ..
ودَعوني جثةً في وطني.
*
-16-
حليباً تغمّسَ بالكبرياءِ رضعتَ
بكيتَ كثيراً.. وأكثرَ جعتَ
وعلّمكَ اليْتمُ
كيف الرجولةُ
تبني منائرَها
من مداميكَ مرمرْ
وأيقظَكََ العشقُ
مقترناً بالدماءِ
ومحتقناً بالرمالِ فؤادك
والغيمُ أصفرْ
ركبتَ جواداً جموحاً
وكدّتَ صريعاً تخرُّ
ولكنََّ روحَكَ
في السرجِ خُيطتْ
وعزمَكَ كالليثِ يزأرْ
وخانكَ صحبٌ
وأعزلَ صالوا عليكَ!
وقلتَ : بلادي.
وقلت: كرامٌ.
ولكن منفاكَ.. في الوجدِ أكبرْ
وحين تلاشتْ شموعُك
أوقدتَ قلبكَ..
هل تتذكرْ..؟
: القُبّراتِ الجميلاتِ
يألفنَ خَطْوَكَ،
والناصريةَ
وهذا الفراتَ
الذي فيكَ أبحرْ
والمرأةَ البرتقاليةَ
تهديكَ سرّ القصيدةِ
هل أنتَ أشعَرْ..؟
تجبّرْ
فهذي القصائدُ أنت قائلُها
ومنْ يتقنْ الصدقَ
فليتجّبرْ
ولابدَّ من موتِ شاعرْ
ولابدَّ
في الموتِ: معَبْرْ.
*
العراق- أكتوبر 1986