التمثـــال - علي ناصر كنانة

عاريةً مثل تـمثالٍ شمعي،
تتشنّج على وجهكِ إبتسامةٌ جريحةْ،
غشاءٌ شاحبٌ يغلّفُ جسدَكِ،
زرقةُ كلماتٍ مشنوقةٍ شفتاك،
عيناك حصاتان لامعتان،
وشعُركِ خيوطٌ سلكيةٌ قاتـمةْ.
كما يحملُ الغريبُ
جثّتَهُ في المتاهةِ..
حملتُكِ..
قدماي تتعثران بالظلالْ
والكلابُ تنهشُ خطوي..
أسقطُ عليك عباءةً ثقيلةً
- حين يغلبني النعاس -
لئلاّ تهرعُ زحوفُ الديدان..
وإذ أسائلُ ما لا أرى:
حولي فراغٌ رهيبْ!
وكم تشفّعتُ بالدمعِ
- عيناك مجدبتانِ -
أن تنهضي..
وما بيننا والحياة فراسخ..
فلم تستجيبي..
حملُتكِ:
جسدي الميتُ أنتِ..
كيف يكون التخلّي..؟
.......
..........
وعبَرنا رعبَ الظمأ..
للصحراءِ فمٌ شرهٌ.. جافْ
تلتهمُنا الرمالُ ونلتهمُها..
وكنتُ أعطشُ
وألتهمُ
وأعاركُ - ثلاثاً -
مرتين عنكِ
وثالثةً عني.
لليالي ذئابٌ
وللنهارات ذئابٌ
التعبُ: ذئبٌ
والظمأُ: ذئبٌ
وملامحُ الخيبةِ: ذئبٌ..
كنّا نـجتّازُ الجحيم..!
أبتاه.. إلى أين..؟
لا بئرَ كوثر
في هذي القفار.
........
.........
..........
صدىً متكّسرٌ
لضجيجِ مدنٍ نائيةْ
وصهيلُ أمواج ٍ
يلِّون مرايا الصمت المقيم..
آ.. "جمل المحاملِ"..
نختَ..؟
أتلك حدودُكَ
أم هذا أوانُ الحدودْ..؟!
... بحنين الدهورِ الذبيحةِ
استقبلتْنا السواحلُ..
وثانيةً.. افترشنا الرمال..
سجّيتُك - عروس البحر القتيلة -
وناجيُت البحرَ..
ذليلاً
بكيتُ بين يديه.. بتراتيلِ متعّبد
أن ينفثَ... في هذا التمثالِ العاري
روحاً منه..
حتى واستْني الامواجُ
ولطمتْ خدودَها بحزن مأتـمي:
(من أجلِ أنكيدو
خِلّي وصاحبي
أبكي وأنوحْ نواح الثكلى)
- (يا جلجامش
لم يعبرْ البحرُ قبلكَ أحد)
.......
.........
............
ألا تتذكرين؟
كيف تعرّيتُ
- أنا الذي أحبُّ الغموض -
وصرختُ بالبحرِ: خذني..
وكيف إحتضنْتنا
- أنا وإياكِ معاً -
ذراعانِ عملاقان..؟
الموجةْ تقذفُنا للموجةِ
عيناكِ أكثر بريقاً
وأهدابكِ رفيفٌ واهنٌ
وأعناق دموعي
من صخبِ جموح الموجة
ترنو إليكِ..
كأنني أعبُّ البحرَ.. صرختُ:
حلقّي بنا.. أيتها الموجة..
بصيغةِ الماءِ ولوعةِ الحنين
التحمنا،
عَوْداً على نطفةِ الخلقِ
حيث يتوئمُ البحُر أحّبتَهُ.
وكما صرخةُ الجنينِ الاولى
بغتةً شعرتُ بنهديك
يخترقان روحي
رصاصتين للحياة.
وإذ باغتتْني شفتاك
بظمئهما المعتّق
ألقتنْا ثمالةُ العناقِ
إلى احضان الساحل
- للرمالِ بريق -
والليلُ يسترُ عِرينا
كنتِ بين يديّ
عاريةً بالجسد البللوري الأخّاذ،
شفتاك مضمّختان بابتساماتٍ قرنفلية،
تندُّ عنهما الكلماتُ
أغانيَ لليلِ والرياحِ والبحر،
عيناكِ زمّردتان
وشعُركِ منثورٌ
بكلّ ما في الموجةِ من عبثْ!
وحين أعيتنْي
مقارعةُ الصحراء.. وطقوس البحر،
أسبلتُ جفنيَّ.. وقلت: إحمليني.
هي لحظةُ
تلَّفتُ حولي.. فلم أجدكِ!
وحيداً مازلتُ..
ومازلتُ أتلفّتُ حولي.
*
19 نوفمبر 1987