صلاة إلى بلاوتس (إله الذهب) - نازك الملائكة

من ضفاف الدجى الأخر
نحن جئناك لاهثين

واقتفينا خطى القمر
فوق أرض من الإبر

في دياجير من أنين

الصحارى رمت بنا
في متاهاتها الغلاظ

رملها في جلودنا
في حنايا جفوننا

لم يزل يسكب الشواظ

والأعاصير والرياح
تركت في جباهنا

من سكاكينها جراح
وأراقت مع النواح

ملحها في شفاهنا

كلمّا رقرق الكلال
بحّة الموت في نشيد

وحنت أذرع الرمال
فوق أجسامنا الثقال

عبئها الساحق المبيد

رنّ في أفقنا صدى
من رنين اسمك الأحب

فمضينا إلى المدى
في صراع مع الردى

باسم معبودنا الذهب

هكذا يمّموا إلى الشرق آلا
فا جياعا للمنبع المزعوم

يقطعون الأكام ترسيهم الصح
راء من حيرة ليأس أليم

ضللتهم أسطورة عن مكان
خلف بعض الجبال في حضن واد

حيث يجري نهر من التبر مسحو
ر طوت سرّه صخور الوهاد

قطرة منه تمنح الكفّ لمسا
ذهبيّ التأثير في الأشياء

و الزهور التي تحفّ بشطّيه
شظايا كواكب بيضاء

أين هذا الوادي ؟ و ضجّ فضاء الص
مت و الليل و المدى بالسؤال

أين هذا الوادي ؟ و ساروا يجرّو
ن قيودا من الرّغاب الثقال

في سكون يلوذ كلّ بسرّ
ه ذهبي الوشاح و التنوين

حالما في الظلام بالجدول المو
عود في عاصف عميق الحنين

من خيالاته يصوغ على الأف
ق قلاعا فضّية الأبواب

و بلادا وديانها تنبت التب
ر مكان الأشجار و الأعشاب

و مكان الفراش تسرح أطيا
ر رقاق تبريّة الأبدان

و مكان القطيع تحيا وعول
مترفات فضيّة السيقان

في خفايا هذا المكان الخرافيّ
أساطير قلعة مسحوره

من تراث الإغريق شيدّها (فل
كان) سرا في أعصر مطمورة

وبناها على رواب من المع
دن منحوتة الذرى سوداء

ناعمات على مزالقها تص
قل ( فيكا) خدودها الملساء

هي برج علت حواليه أشجا
ر ضخام تمسّ أفق النجوم

ونمت في أنحائه الكوكبيا
ت أساطير عن زمان قديم

ويقولون إن جدرانها الغا
مضة اللون لآلي البحار

جمعتها عرائس الماء من أع
ماق بحر مطلسم الأسرار

ويقولون إن أبوابها المق
فلة الصمت فوق أروع سر

نزعت من جدران قصر سميرا
ميس في ليل بابل ذات عصر

و القباب الضخام من خشب الجو
ز الشذيّ المعّطر الألواح

من شعاب الهند الملفّعة الغا
بات بالذكريات و الأشباح

هذه القلعة الضبابية الشك
ل إليها يضيع خطو الساري

ليس يدري مكان سّلمها العا
لي رواة الألغاز و الأخبار

ليس يدرون كيف يبلغها سا
كنها الصامت الغريب الطباع

ذلك الأعرج البطئ الخطى يس
بقه النمل – إن مشى – و الأفاعي

ذلك العاجز الكفيف الذي يم
نح من لا يرى كنوزا ضخاما

ليس يعنيه أن يسلّمها شي
خا بخيلا أو قاتلا أو غلاما

ذلك الشيخ, كيف يصعد أين ال
باب ؟ أين السلالم السحريّه؟

أتراه –كما يقولون – يؤوي
بين جدران قصره جنيّه؟

شعرها – هكذا رووا – باركته
من قنان ( الأولمب) أيد خفيّه

فنما كالحياة ثرا غزيرا
أبدي المسيل كالأبديّه

ونما كالضياء كالبحر يمتدّ
سحيق السواد دون انتهاء

إن أرادت شدّت به القمر النا
ئي إلى الأرض أو إلى الجوزاء

ذلك الشعر ربما أرسلته
سّلما للضرير كلّ مساء

يتخطى عليه مرتعش الخط
و مراقي تلك الرّبى الملساء

أرسلي يا طويلة الشعر يا سم
راء إحدى الجدائل المسحوره

و ارفعي الهائمين بالذهب البرّ
اق من هذه الوهاد الكسيره

أو أطلي يوما بوجهك , بالفت
نة و الصمت في مدى أحداقك

و أعيدي على الجموع أقاصي
ص عن الهالكين من عشّاقك

حدّثيهم عن ذلك الملك الغا
بر (ميداس) كيف كان مصيره؟

أين ساقته شهوة الذهب العم
ياء ماذا جنى عليه غروره

جنّ بالتبر لم يعد يعشق الأن
جم إلا إن أذكرته سناه

وازرقاق الغيوم و البحر ما عا
د مثيرا لحبه ورؤاه

واخضرار الجبال أصبح يؤذي
روحه , و الزهور لا ترويه

فهو عطشان يدفع الذهب الوهّ
اج أحلامه إلى ألف تيه

ودّ لو حوّل الخدود و أهدا
ب العيون الكحلاء تبرا نقيّا

و اشقرار الآفاق , و الشفق الخج
لان و الشوق نائما في محيّا

و الشفاه الحوّاء ينضح منها الد
فء كم ودّ لو تحوّلن سرّا

ذهبا تجمد الشفاه عليه
قبلا كالرخام يقطرن تبرا

حدّيثهم و كيف ذات مساء
كان ( ميداس ) لاهث المقلتين

يلمس الكنز في انفعال جنوني
وفي كفّه لظى شفتين

و أزاح المساء ستر دجاه
عن صبي من عالم الأطياف

في استدارات وجهه المخمليّ ال
لون إبراق منبع شفّاف

وعلى رأسه جدائل شعر
ذهبي يغار منه الفتون

و سماء في مقلتيه من الزر
قة و العمق لم تنلها عيون

" عم مساء" و أجفل الملك الشي
خ و مات البريق في عينيه

غير أصداء بحّة حشرجت و إن
طلقت صرخة على شفتيه

أيّ باب قادت خطى الوافد المج
هول؟ هل جاء من شقوق الجدار؟

أم تراه خيالة جسّدتها
فتنة الكنز و ائتلاق النضار؟

"عم مساء ميداس" من أنت ماذا
تبنغيه في قبوي المجهول؟"

و أجاب الطيف الكريم: أنا أم
لك تحقيق كلّ حلم جميل

أنا ربّ التمنيات شفاهي
تملك المستحيل و الأبعادا

في ذراعي قدرة الخلق لو شئ
ت لحولت كل حيّ جمادا

ملء كّفي الورود و الذهب الوه
اج و اللون و الشباب الطريّ

كلّ ما شئت فاقترح تهبط الأف
لاك و الأفق و السّنا الكوكبيّ

أرأيت الأغصان في قبضة الإع
صار تهتزّ وردة بعد ورده؟

أرأيت النعيم في قلب رحا
ل سنين واتاه حلم العوده ؟

هكذا لوّن الحماس خدود ال
ملك الغرّ و هو يسمع هذا

وجثا ضارعا و صاح : " حنا ني
ك ملاكي ماذا سؤالك ماذا

أعط هذي اليد المشوقه لمسا
ذهبّيا و قوة من سحر

دع ذراعيّ لا تمسّان إلا
لتعيدا الأشياء عالم تبر

إيه ميداس, أيّها الملك الأح
مق ماذا جنيت ؟ أيّ غرور؟

أرقب الآن مطلع الفجر و أنظر
كيف عقبى خيالك المغرور

في غد تستحيل أشجارك الحيّ
ة تبرا تعافه الأنداء

و سواقي المياه تجمد صفرا
ء كصحراء جفّ فيها الماء

ودموع الندى تعود حصى صل
با و لين الورود يصبح صلدا

و رحيق الكروم يجمد كالصخ
ر و دفء الأعشاش يصبح بردا

و حرير الستائر اللدن يغدو
جامدا لا ليونة لا انثيالا

و (نهاوند) بنتك العذبة الجذ
لى ستغدو في لحظة تمثالا

هكذا تنتهي خيالاتك التب
رية الصفر للأسى الأبديّ

فاشرب الآن خمرة الندم البا
رد واسكر بحلمك الذهبيّ