رؤيا - نبيلة الخطيب

شاهدتك بين الناس مُسجّى
ورأيتُ نساءً وحشيّات
مزّقنَ ثيابك
لُذتَ إلى كفنك
فتَسرّبَ بين أصابعهنّ ثقوبا
ورأيتُ الناسَ يغنّون ويبكون معاً
هذا يأكل من لحمك
هذا يشرب من دمك المسفوح
هذي ترقص فوق النعش
تلك ترش على شبان الحفلة ِ
من باقي عطرك..
واصطفّ الملَكُ
وأنت تئنّ على أرصفة الماضي
ملَكٌ ناداك:
قم يا سكران -
فاستجمعتَ بقايا الصحو
المهدور على عتبات اللحظات الثكلى
(يا جندي الله..
لستُ بسكرانٍ من خمر
هذي…)
وعلى شفتيك ارتعشت
سكراتُ الموت..
وانطلقتْ شَهْقتُكَ
تُفَرّقُ بين حروف الكلمات
وكأني بك أطبقتَ الجفنَ على الجفن..
(أقسمُ أني للتوّ صحوت )
ودنا ملكٌ ثانٍ:
- يا عبد الله
أينكَ من برّ الأبوين؟
وقضى ربك..
يا عبد الله…
أوَفيتَ الدّيْن؟
(هذا عمري يشهد أني
أحببتُهما أكثر من ولدي
ووسائدُ نومي تشهد أني
ما من ليلٍ أرّقَ أحدَهما
إلا وهجرتُ المضجعَ بعضَ هزيع
واحتدمتْ نارٌ في كبدي)
وتقدّمَ أحدُ جنود الله :
يا عبد الله..
حمّلكَ الله أماناتْ
أعطاك من الدنيا زينتها
صبياناً وبناتْ
ماذا استودعتَ خُطاهم
والعمرُ كما تعلم ميقات؟
(يا جندي الله..
ما نحنُ بأهل الدنيا
بل رحّالون
أولادي..؟
أفنيتُ لهم عمري
وجعلتُ مساكنهم قلبي
وشرايين دمي
سَلهُم مَن بات على أرصفة الطرقات غريباً
ليَقرّوا …
مَن عاشَ حزيناً
ليُسَرّوا…
أشواك الغربة ما زالت في قدميّ
ورياح الغربة ما زالت
تصفرُ في أرجائي
آهات شتاتٍ
تعزفني…
كنتُ أئنّ على جرحي
أبكي كالطفل الفاقد أمه
مجهول في أروقة الظلمات غريب
لا بيت أخٍ لي يؤويني
لا صدر حبيب)
واستُلّتْ من بين ضلوعك آه
فاختزلتْ آلامَ الحرمانْ
رفّتْ واحتدمتْ
وانطفأتْ في بحر الخذلانْ
ابنتك الكبرى انتفضتْ
سترتْ عُريَكَ
ثم انتصبت رافعة كفيها
يا ألله..
حين البردُ يئزٌ العظمْ
والريح تزمجر في العَتمْ
فأبي كان الصدرَ الدافئ
يا ألله..
في غمرة أمواهِ الظلمْ
عبدك هذا كان الشاطئ
ثم اقتربتْ صُغراك
وانكفأت تسكب قبلات في فوديك
وانهمرت من أعين أهلك أنهار دموع
نذروا أن يبكوا
حتى تغسل أدمعُهم
كل خطاياك
حتى لو كانت آثامك يا عبد الله
كزبد البحر
حتى لو بقيت أعينهم تذرف
يا عبد الله
لأجلك طولَ العمر
لكني أومأتُ لهم
أن كُفوا أدمعكم
وأعينوا الراقدَ بالصلوات
وامتشِقوا الصبر
حينئذٍ دوّى صوتٌ فيك
وراح يناديك..
يا طيناً شُكّلَ إنسانا
وجَنانُكَ كم ذابَ وعانى
ودموعُكَ فاضت غدرانا
من بين جراحات العمرِ
جمَعْتَ النشوة
يا مسكين..
أفراحُكَ باتت أحزانا
أخذتني الرحمةُ
فوقفتُ أنادي في الناسْ
حيّ على سَكب الدمع
لنغسله في ليلة عرسه
ضحكت إحداهن وقالت:
يا ساذجة الإحساسْ
هل ظنُك أنّا
سنكونُ به أرحمَ مما كان بنفسه؟
………..
………..
وتجلّتْ سيدة الحكمة:
يا ولدي..
في زمنٍ عُلويّ النعمة
حين انبعثتْ روحٌ في الطينْ
وتجَلّى حُسْنُ التكوين
خرّ الملَكُ سجودا
إلا إبليسَ..
أبى واستكبَرْ
قال أنا النارُ
ولن أسجد للطين وللماء
هو يدري ..
أن الخضرة وثمار الأرض
وأزهار المرج وأسباب الخير
لا تنبت إلا في الطين وفي الماء
والنارُ إذا اندلعت
لا تُبقي شيئاً
إلا إن أطفأها الماءْ
أقسمَ ذاكَ العاصي
أن يشعلها حرباً شعواءْ
نشبت يا ولدي حربٌ
لا يطفئها إلا الموت
وتمادى الظالمُ كيداً
…………..
أي ولدي..
حين تحس النارَ استعرتْ في جنبيك
والجمر استمكن في عطفيك
وتراك حريصاً أن تذكيَها ..
فاعلم أن هواكَ
انتصر عليك
أي ولدي..
حين تشدّ النفسَ إليك
فتفرّ كعصفورٍ
من بين يديك
وتغيم الرؤية في عينيك
فاعلم وقتئذٍ أن الجولة ليست لك
وإذا بتّ تفتّشُ عن أعذارٍ وشهودْ
فاعلم أنك تترافع في وقتٍ ضائعْ
عن حقٍ مفقودْ
واحذر يا ولدي..
خصمُك يغويك
إلى آخر رمق فيك
يا عبد الله.. يا عبد الله
……….
……….
عندئذٍ زاغت عيناك
لملمتَ الوجع المتناثر في أرجائك
تستنجد ساقين ترنحتا
وكأنهما ما مشتا يوماً
فوق أديم الأرض
ووقفتَ تؤَذن في الناس:
يا أهل الأرض..
أحببتُ الدنيا
أكثر من نفسي
وقسَمتُ لها
أكثر مما استبقيتُ لنفسي
كانت تطعنني وأغنّي
طرّزتُ لها بالدمع قصائدَ وحكايا
لي تجربة في كل مكان وخطايا
فإذا بحياتي
ضاقت عن كل حكاياتي
جابتني الدّنيا
في أيامٍ
مرتْ كالحُلْم بغفلة نومْ
وصحوتُ على سَفرٍ أبَديٍّ
داهمني في آخر يوم
بعد قليلٍ …
أمضي وتعودون جميعا
وأظل أنادي
يا أولادي..
يا أم بنيّ..
يا حسناوات الدنيا
هل من خلّ يسمع صوتي؟
أين رفاقُ الفرح الزائف؟
شربوا الأقداح ورقصوا حول النار
وحدي صرت أنا والنار
وحدي بتّ أعانيها
وإذا ذَرّتني الريحُ رمادا
كلٌ يغمض عينيهْ
حتى لا أدخل فيها
يا أحبابي
أعياني قيدُ الصلصال
وتمادت فيّ الأوحال
تشتاقُ الروحُ إلى نورٍ
يغسلني من ظلمة وهني
ويكفّ تباريحي عنّي
ولدي..
لا تسكن جسدك
لا تُسْلِم للظلمة ولدك
لا تجعل من حبّ امرأةٍ في الدّنيا كبَدَك
لا تَفطُر من أجل بريق المال الزائف كبِِدَك
أي ولدي
لا تشحذ نصلاً يُغرسُ في ظهرك
لا تركع في حضرة كرسيٍّ
حتى لو أصلِتَ سيفُ القهر
على نحرك
يا ولدي..
كن حرّاً..
كن سيد أمرك
وتلفتّ إلى مَن حولك
ثم نظرتَ إلى أعلى
وعلتْ وجهَكَ إشراقة بسمة
لا أدري هل كانت
ضحكة طفل أم شمساً بزغتْ
ضجّتْ أصواتٌ من حولك:
الرجلُ يموت
قلتُ لهم كلا..
بل يولدُ ميلاداً لا يقهره الموت
وانتصبتْ قامتك كما الرمح
ونفضتَ غبار الدنيا ورنوت
وانطلقتْ صرختك تزلزل كل الأشياء
اليومَ ولدت
اليومَ ولدت
يا عبد الله..
هذا ما كان بنومي
إنْ سرّك ما بلّغتُك
فهنيئاً لك ميلادك
وإذا أوجعتك بسياطي
سامحني..
فلقد أبكيتك وبكيت.
1992