جنوب مطلق - باسم فرات

... وأقول : في الأقاصي البعيدة
ثمة ما يدعو للتذكّر
في المدن التي أنهكها البحرُ
أردمُ أحلامي
لي من الحروبِ تذكارٌ
ومن البلادِ أقصى الجراح
لي من الأسى دموع المشاحيف وارتباك القصب
تأوهات النخلِ
بوح البرتقالِ
دمُ الآس
هناكَ ...
تركتُ على خارطةِ الطفولةِ
براءةً ثقّبَتها عفونة العسكر
ومن البيت سرقتني الثكنات
ورمتني الى المنفى
...
أنا والله وحيدان
ثمة أبدية تستظلّ بي
ثمة نسيان يغادرني
تاركاً رائحة القصف في ممرات عمري
وأقول : في الأقاصي البعيدة
تستغفلني الحرب ، فتكنسُ أفراحي
أمسكُ بالسراب ..
بلا جوازِ سفرٍ يُشعل الفرات أمواجه لي
بينما جميع الأشياء تشير إليكِ
لا شئ يُذكرني بكِ
تنحي السماء لتعبري
خيطٌ من الفراشاتِ ينتظرُ عند بابك
كذلك زقزقةٌ شاسعة
وهديل شفيف يلامس الورقة
وفي البياض بوحٌ طويلٌ
وأقولُ : في أقصى الجنوبِ جنوبٌ .
...
المرأة بأعوامها الأربعين تجهلُ تماماً
ان أبي أكثرُ القتلى بشاشةً
بطولاتُه أورثتنا الجوعَ واحتفاء الآخرين
ومنذ ثلاثين سنةً قمريةً تحتطبُ أمي انتظارها
حتى غدت إنتظاراً
طفولتي التي سخمها الفقرُ واليتمُ
ها هي تمدّ لسانها ساخرةً مني
بعدما سَخّمَتْ حياتي الحروب والمنافي
كلما أستلقي يحاذينا الفرات
مادّاً لي أحلامه
فتزاحمها القذائف وصفارات الحصار
أخرج من نومي إلى الطرقات
مثخناً بالذكريات
أبادل الشظايا بالورود والقصائد
ورعونة القصف بعود مُلاّ عثمان الموصلي
ومقامات القبنجي
...
للبحر الذي بَلّلَته أناشيد البحارة
دموع تسترخي على الشواطئ
فيلهو بها العشاق والأطفال
محارٌ يغفو على جفنِ الموجِ
صخورٌ تتكئُ على خاصرتِهِ
تعدّ تساقط الأمنيات
من المارة
...
وللحربِ أيضاً أناشيدها
تلك التي بلّلَت أحضان الأمهات
بالعويلِ والترقّبِ
نوافذ أُشرعت للانتظار
ولا تشيرُ الى أحدٍ
أبوابٌ أكلتها الحسرة
فتهشّمتْ عتباتها
أحلامٌ تسحل في الشوارع
( أيتها الشوارع متى أُشيّع حزني على أرصفتكِ )
مصابيحُ شاحبة أنهكها البرد
...
وللحرب . . .
قذائف تتوسدنا ، وتستريحُ بأجسادنا
قتلى في جيوبهم
عصافير تشاكس الصباح
وتلهو بنجمةٍ يتيمة نساها الليل
رسائل دافقة بالفجر
. . . . وأقولُ :
يا لهاث الجنوب
يا ابن الشمس
والانهار التي تطلق الكوارث من شدقاتها
مثلما تطلق الكتب المقدسة والانبياء
ها أنت أخطأتك المعارك غير مرة
فوجدت نفسك خارج الحدود
وحين تطلعتَ إلى الوطن
ابتلعك المنفى
تنفخ سنواتكَ فلا ترى سوى الرماد
وتخشى على بهائك من الاندثار
كل ليلة تقيم حفلاً لدجلة في أقصى جنوب الجنوب
لا جنوب ورائي لأصيح : هنا بلادي
ولا جنوب أمامي لأتلمس لي منفذاً إليه
أنا الجنوب المطلق
عُدّتي تاريخٌ طويلٌ من الحروب والانكسارات
الأمجاد الملوّثة بسياط الوالي
وأوسمة الجنرال
عرّتني وحيداً في الأرض الحرام
ليلي مُشبّع بتفاصيل الثكنات
سرّ الليل
ضابط الخفر
وفرق الاعدام
كل النساء اللواتي عرفت
واللواتي سوف أسم شهواتهنَّ بحماقاتي
شَممنَ صهيل السواتر في زفيري
واستفزّ انوثتهن هذياني في ثاكلة الليل
وأقول :
يا لهاث الفراتين
كي أستطيع مصافحة غربتي
هل عليّ أن أحرق جذوري ؟
وأرمي ثلاثين عاماً الى البحر
لتكون وليمة شهية للأسماك
هل عليّ ان أخلع قميصي الملئ قسراً
بالقذائف والوشايات والحصار
لتعانقني سماءٌ ليست لي
وأقول :
يا لهاث الفراتين
في المدن القصية
ثمة ما يدعو للتذكّر
في الأقاصي التي أنهكها البحر
أردمُ أحلامي
لي من الحروب تذكارٌ
ومن البلادِ أقصى الجراح .