وَدَعاً نازك الملائكة - سالم أبوجمهور القبيسي

نأى الفُراتُ فَهَبَّ النيلُ مُقتَرِبا
يُقَبِّلُ الشِّعرَ في عَينيكِ و الأدبا

و عُلِّقَت بابلٌ في ظِلِّ دَاليةٍ
فَعَلَّقَت طِيبةٌ في صَدركِ العِنَبا

جاءت بهيةُ و الشرباتُ في يَدِها
و خلفها العَمُّ حِفْني يَعصُرُ القَصَبا

و عِرقُ سُوسٍ يَرشُّ الدَّربَ مُبتهِجاًُ
و صِبيةٌ تَنثرُ الأصواتَ و الشغبا

كُلُّ الفوانيس كانت غير مُطفئةٍ
و لا تُنيرُ ولَكِنْ تشتهي سَبَبا

كأنَّ محفوظَ في أولادِ حارتِهِ
شَيخٌ تصابى يُثيرُ المَزْحَ و اللَعِبا

فطافَ يَروي لصوتِ النيلِ ثَرثرةً
تغري الحرافيشَ و القصرينِ و القِبَبَا

تَبدو الأزقةُ حَولَ الناسِ ضيقةً
قالوا: أبو الهَولِ فيها مَرَّ مُنتَصِبا !

لا تَعجَبنَّ هنا جُمَّيزةٌ حضنت
موسى و عيسى و إبراهيم و العَجَبا

أمأتمٌ ها هُنا أم أنه فَرَحٌ
أم مَولِدٌ قَد أثارَ الوجدَ و الصَّخَبا

دَعِ السؤالَ فقد مَرَّ الحسينُ هنا
و خلفه زينبٌ تستمطِرُ السُحُبا

و صاحَ : اللهُ ، صُوفيٌّ بِسَكْرَتِهِ
اللهُ حَيٌّ ، فخافَ الحزنُ و انسحبا

ما كان نَعشٌ هُنا بل مَوجةٌ نَزَحت
مِنَ الفُراتِ فلاقت نيلَها الرَحِبا

أيا مَلاكاً بِه أسرت ملائكةٌ
في العالمينَ و عاشَ العمرَ مُحتجِبا

تأبى الضفافُ التي أسقيتها وَلَهاً
أنْ يُصبحَ الحُبُّ في الأوطانِ مُغتربا

كأنَّ رُوحَكِ بالأنهار سابحةٌ
تأجَّجَ الماءُ في كَفّيكِ أم عَذُبا

كَم شُرِّدَ النهرُ و استعصت مشارِبُهُ
فساحَ في حُلمكِ المأسورِ و انسكبا

لَنْ يسلبَ الليلُ حُلمَ الفجرِ سيدتي
لو كانَ للكوكبِ المحزونِ مُستَلِبا

إنْ باتَ جلجامشٌ بالهَمِّ مُكتئباً
مَدَّ السماءَ لَكِ اخناتونُ و الطربا

يا رَبَّةَ الطُّهرِ إنَّ الطُّهرَ يسألني
عن كُلِّ حَرفٍ بهِ أستوقِدُ اللهبا

(اغضب أحِبُكَ) عنوان يُأرقني
يا ربة الطهر إني أعشقُ الغضبا

و كيف لا ، كيف لا، والأرضُ باكيةٌ
تُشيِّعُ المجدَ في عينَيَّ و العربا

يا رَبةَ الطُّهرِ إن غِبتِ على عَجَلٍ
فما تَعَجَّلَ ذاك النهرُ مُغتَصِبا

ما كانَ نهراً بَل النهرينِ إنْ عَشِقا
تِلك الضفاف وإن ناما و إن وَثَبا

لَو جُرِّدا حَولَ هذا الليلِ ما بَقِيَت
مِنَ الظلامِ وُجوهٌ تَزرَعُ الرِّيَبا

فليمرح الليلُ فالساعاتُ بائعةٌ
وقتاً مِنَ الليلِ لا يستلهِمُ الحِقَبا