الموجَعَة - عبدالرزاق عبدالواحد

بدَدٌ.. كلُّ عمرِهِ بَدَدُ
كلُّ ما يدَّعي، وما يَعِدُ

القَوافْي، والجاه، والولَدُ
والثراءُ المَوهوم، والتَّلَدُ

والمواعيدُ ما لها عَدَدُ
والرِّضا، والرَّفاهُ، والرَّغَدُ

بدَدٌ كلُّها، وأوجَعُها
أنَّهُ الآن عمرُهُ بدَدُ

علِّميهِ إذا ظفرتِ بهِ
بعدَ ستّين كيف يَقتَصدُ!

أمَّ خلدون، والدُّنا أَمَدٌ
كلُّ ما ظلَّ في الدُّنا أمَدُ

محضُ وقتٍ على دقائقِهِ
ينحني وهو يذبلُ الجسَدُ

كلَّما امتدَّ ينقَطِعْ سبَبٌ
من رَجانا، وينخلعْ وَتَدُ

أمَّ خلدون، نحن من وجعٍ
ضلعُنا عن أخيه يبتَعدُ

كلُّ أوتادنا مزعزَعةٌ
فبماذا تكابرُ العَمَدُ؟‍!

أنتِ تدرين أنَّني مَرِحٌ
طولَ عمري.. مشاكسٌ، غَرِدُ

عاشقٌ حَدَّ أن يضجَّ دمي
لِسنا الفجر حين ينجردُ

كنتُ عمري إذا انتهى مَددٌ
من هيامي يجيئني مَدَدُ

لم أسائلُ، لكنْ أعيشُ هوىً
لم يعشْ مثلَ زهوِهِ أحدُ

ربَّما كان كلُّه زَبداً
آهِ لو عاد ذلك الزَّبَدُ!

*

أمَّ خلدون... أيُّ بارقةٍ
حلوةٍ جاءنا بها الرَّشَدُ؟

أيَّ زهوٍ، وأيَّ عافيةٍ
حشدَ العمرُ وهو يحتشدُ؟

نحن كنّا رفيفَ أجنحةٍ
فغدَونا نمشي ونَستندُ!

وحشَونا جلودَنا حِكَماً
وبرَعنا في كيف ننَتقدُ

أجملُ العمرِ غالَ هدأتَهُ
خوفُنا أنَّنا سنَفتَقِدُ

صار، بعد الصَّفاء، يُقلقُنا
أين نغفو.. وكيف نبتَرِدُ!

كم طمأنينةٍ عَواذلُنا
وأدوها في بعض ما وأدوا

فغدَونا محسوبةٌ سلَفاً
ضحكُنا، والبكاءُ، والجَلَدُ

بدَدٌ، كلُّ عمرهِ بَدَدُ
لا وقاءٌ لَهُ، ولا سنَدُ

منذُ خمسين وهو معتكفٌ
وعليه من نفسِهِ رَصَدُ

حسبَ الدَّرسَ تارةً أرَبَاً
فبَرَى الروح وهو يجتهدُ

حسبَ الشعرَ مَلجأً، فذوى
وهو يُوري، والشعرُ يتَّقدُ

ظنَّ أولادَهُ لـه سبباً
ففَداهم بكلِّ ما يَجدُ

كان أقصى أحلامِهِ ولدٌ
يزدهي، أو بُنيَّةٌ تلدُ!

وإذا كلُّ سعيِهِ بدَدُ
كلُّ ما يَدَّعي، وما يَعِدُ

علِّميهِ يامَن عجِلتِ بهِ
بعد ستّين كيف يَتَّئدُ!

*

أمَّ خلدون، لا أقول كما...
لا، ولا أرصُدُ الذي رصَدوا

أنا عندي زرعي وساقيتي
ونواعيرُ ماؤها هَدَدُ

كلُّ دلوٍ بها لـه رئةٌ
وحدَها بالدّموع تنفردُ

وتعلَّمتُ إذ يدورُ بها
حزنُها السَّرمديُّ والكمدُ

أنَّها وحدَها مخوَّلةٌ
أن يُغنّي دولابُها النَّكِدُ!

لا تقولي أسرَفتَ يا سنَدي
ربّ تعبان مالَهُ سنَدُ

أنا عندي حزني ألوذُ بهِ
فاقدُ الحزنِ أين يتَّسدُ؟!

*

بددٌ كلُّ عُمرنا بَدَدُ
ما أضَعنا بهِ، وما نجدُ

كم زرَعنا، وكم سقى دمُنا
وسهرنا حتى ذوى الكبدُ

كم نسَجنا ضلوعَنا زرَداً
شاخصاتٌ ليومِنا الزَّردُ

كم، وليلُ الشتاءِ يَرقبُنا
خوفُنا فيه كادَ يَنجمدُ

وصبَرْنا، وكلُّ ثانيةٍ
تتلوَّى كأنَّها أبَدُ

أسَفاً إن يُقال قد صَدِئوا
والمروءاتُ حَبْلها مَسَدُ

أمَّ خلدون إنَّ بي غبَشاً
ألفُ فَجرٍ عليهِ ينعقدُ

لم يزلْ نَبْعُنا جداولُهُ
كلُّ آتٍ من مائها يَرِدُ

فإذا جاءنا بلا بَلَدٍ
فقناديلُنا لـهُ بَلَدُ!

أمَّ خلدون كَفكفي وجعي
وعِديني ببعضِ ما أعِدُ

أنا أدري بأنَّ ألويَتي
نصفُها في الرياح يرتعدُ

أنا أدري بأنَّ لي سُفُناً
فُقدَت في عِدادِ مَن فُقِدوا

أنا أدري بأنَّ بي وَرَماً
منذُ خمسين وهو يَطَّردُ

وبأنّي تَساؤلي حَرَدُ
وبأنّي خصومتي لَدَدُ

أنا أدري، أدري بأنَّ دمي
في الشرايين بات يتَّقدُ

بسنينٍ بحزنِها ذهبتْ
وسنينٍ بحزنها تَفِدُ

أمَّ خلدون.. أيُّ مُعجزةٍ
تُقنعُ العِرقَ كيف ينفصدُ؟!

أنا أقنعتُ كلَّ أوردّتي
أنَّ نَصلي بها سينغمدُ

وبأني مُعوِّضٌ دمَها
بمرازيب ماؤها هَدَدُ

بشموعٍ أضواؤها رُمُدُ
وضلوعٍ أوجاعُها جُدُدُ

بتقاليدَ كلُّها هُجرَتْ
ومواليدَ كلُّهم وُئِدوا

بغدٍ مُبهَمٍ جداولُهُ
كلُّها بالدموع تَتَّحِدُ

فاعذريني إذا نَذرتُ دمي
ربَّ وعدٍ يبكي لمن وَعدوا!

أمَّ خلدون لَملمِي سَهَري
وارقدي بي فالناسُ قد رقدوا

أنا مازلتُ موقظاً وجعي
بينما كلُّ إخوَتي هجَدوا

وَغَداً، والعيونُ تسألُنا
ما حصَدنا لها، وما حصدوا

نتراءى فقيرةً يَدُنا
ولكلِّ امرئٍ يَدٌ ويَدُ

نتراءى نحن النّيام غداً
بينما القومُ كلُّهم سَهِدوا!

ألفُ حمدٍ لله.. نشكرُهُ
أنّنا بالمَلامِ ننفردُ

ألفُ حمدٍ لله أنَّ لنا
وحدَنا ما يُخلِّفُ الكمَدُ

التَّشَفّي، واللَّوم، والحَسدُ
ونزيفٌ عليه نُنتَقَدُ

بددٌ، كلَُّ عمرهِ بَدَدُ
كلُّ ما يدَّعي، وما يَعِدُ

هَدهديهِ لعلَّ غُربتَهُ
حين يغفو تغفو وتَنضَمُد!