ألواح - علي ناصر كنانة

الدخول إلى بابل
...
سقطتْ الرهبةُ من مفاصلها
وتساقطَ لحاءُ الأسئلةِ العصيّةِ
وأسّاقطتْ الأجوبةُ بلَحاً جذِلاً.
الطريق إلى بابل هي ذاتها الطريق إلى بابل: بقايا ملوك.. ليسَ إلاّ.
لملمتْ البلحَ المتناثرَ
ونأتْ بروحها المتناثرة
عمّا يمكنُ أن تفعلَ ريحٌ
في شعرٍ منثور.
منهمكٌ نبوخذ نصّر في تعليق الجنائن لتشزرَ سميراميس القوم من عل .
في خدَرِ الليل يحكمُ بابلَ ملكان وفي النهار يتسلّطُ السيف والجمال.
جنودٌ يهمّون في تغليف الجنائز
وعمّال يهمّون في تعليق الجنائن.
بعيداً .. في مخدعها الجوّانـي
اضطجعتْ على أريكة الصمت
وأغلقتْ جميع أبوابها
ما خلا بوابة الحلم.
ومن عناقِ مجهَدَين
هطلَ مطرٌ لم تألفهُ من قبل.
تتقاطرُ الأسئلة
عند قدمي أسد بابل هو كعادته
- منذ آلاف السنين - يوثر الصمت.
استفاقتْ في غير صباح
لتفطر على جوابٍ لم تذقْ طعمَهُ من قبل.
العالمُ أبوابٌ مشرعةٌ
وهي تعرفُ
– هذه المرة –
أياً منها ستدلف.
عبْرَ بوابة عشتار دخلتْ حياةٌ كثيرة وخرجَ موتٌ كثير.
حرابٌ داخل الأسوار
وحراب خارجها.
استقبلها الحاجبُ بشمائل الاحتفال
الطريق إلى الآلهة كانتْ أقصرَ مما ظنّتْ.
ودون خيلاء يتوسّط إله الحكمة مجالسيه.
هي لمحتْ المنـزلة وانثالَ الظمأ من أوداجها.
تكلّسَ حمورابي في مسلّته وتكلّستْ شرائع المدنية، ودون جدوى
تحاول القوانين الإفلات
من أسر المسلة.
افترشتْ الكياسةَ وأبدتْ خَفَراً.
فرشتْ يقينها وأسئلةً أخرى .
فراشاتٍ كانتْ الإيحاءات
وحجراً كانت الأجساد .
نبوخذ نصّر
يختال بإحساس الرمز الكلّي.. وسميراميس: رمز الكليّات.
لو أن الجسد يظلُّ مشتعلاً
ولتحترق المملكة!
ولتحترق المملكة!
نهضتْ كالموسيقى تتماوجُ في حقل القمح
ذهَباً كانتْ خطوتُها والفضةُ ماء
كما لو تلمسُ ناراً خلعتْ نقابـَها والحلي
وعاريةً وهبتْ جنونها للحكمة.
عند أسوار بابل تُسملُ عيون الحكمة ويُدفنُ رمادها
في مقابرَ تنبشها الغربان دون أن تنهض عقبانها.
*
نحفظُهُ سرّاً.. ونختال.
لم أرَ أقدمَ من عينيكِ
زمرّدتينِ
يخضّلهما الحنّاءُ الشرقيُ..
كان الآسُ الفيءَ الأولَ
في ضوعِ طفولتنا
أتذّكرُ أنكِ – قالَ أبي:
تاريخٌ نقرأهُ مختالينَ
ونحفظهُ: سرَّ الكينونةِ.
قالَ المتباهي في صفٍّ
ينصتُ من هيبتهِ الطلابُ:
في سومرَ مدفونٌ جَدّي
وفي أكَدٍ دُفِنتْ لي خالةْ
وماتَ شقيقي كَمَداً في الوركاءْ..
وأمي مازالتْ في قبرٍ
- لم ينبشْه الآثاريون - ببابلَ
وفي هجرتهِ الأولى
ما عادَ أبي من آشورَ
وخليطاً من تلك الأقوامِ
ولدتُ لنطفةِ أمشاجٍ عربية.
كان الطلابُ سكوتاً:
خوفاً أو مندهشينَ
وكنتُ أريدُ العودةَ للبيتِ
لأسألَ جدّي
عن قبرِ أبيهِ
وخالتهِ..
فعانقني مهزوماً.. وبكى!
*
أصـوات
أصواتٌ
تتناهى في أمداءِ الأزلِ المسكونِ
بعطرِ اللغةِ الأولى.
بعضٌ من جلجامشَ
مازالَ خبيئاً في ظلِّ الأشياءِ
وأسئلةِ الإنسانِ
المسكونةِ بالخوفِ من الموتْ.
أصواتٌ لا تعرفُنا..
يقطعُنا الظلُّ عن الظلِّ..
جذوعاً.. / كانتْ نخلاً /
تتعلّقُ في اللاشيءِ..
ضباباً -
يسخرُ منها الطوفـانْ.
أصواتٌ نعرفُها..
ونقولُ برغمِ النفيِ:
" أصواتُنا تلكَ "..
نتصارخُ مهووسينَ..
مُبتَلَعينَ..
يعودُ الصوتُ لمنبعهِ..
نبحثُ بين أناملنا
عن أصداءٍ باردةٍ كالثلجِ
يذوبُ
ويتركُ أيدينا باردةً كالثلج.
الثـلجُ – نصيحُ – ولا الذوبـانْ
أصواتٌ تنثالُ من الأجنابِ
كماءٍ مأهولٍ
بصفاتٍ يجهلُها الماءْ.
أصواتُ الغرقى نسمعُها..
ونهرعُ نحو حدود الصوتِ..
ونعودُ يتامى
مثلَ بكاءِ اليومِ الأولِ
يغمرُنا الماءُ.. ونعجبُ:
كم يبكي الإنسـانْ ؟!
أصواتٌ لا نعرفُها..
نحو حدود الإبصارِ الخادعِ.. تأخذُنا..
تباركُ رؤيتَنا زيفاً
تنعتُنا بصفاتِ الرؤيا
وتقولُ - برغمِ إرادتنا العمياءْ:
- " ذي بابلُ.. أرضٌ وسماءْ".
أرضٌ
تتلعثمُ فوقَ خرائبِها
لغةُ الأقدامِ.
وسماءٌ
تسخرُ من أجنحةٍ عمياءْ.
نستنفرُ فينا ملَكاتِ الحسِّ.
حجرٌ أيدينا..
ودخانٌ غربتُنا.
وكعادتِها
أسئلةُ الخيبةِ تعبثُ بالغرباءْ:
- أَ ذي بابلُ ؟
- لا . قالتْ قائلةُ الأشياءْ.
- مَنْ ذي.. يا صاحبةَ الأمرِ؟
يلتمسُ الحكمةَ في القولِ
العميـانْ
في أمداءِ الأزلِ المشحونِ
بعطرِ اللغةِ الأولى
يترنّحُ موجوعاً أنكيدو..
ويكابدُ جلجامشُ مهزوماً
شبحَ الموتِ..
ويحتفلُ الأحفادُ بيومٍ
ذي أمسٍ موهومٍ..
وغَدٍ
لا يتَمنطقُ في حِسبـانْ
نتحرّى في سفر التاريخِ
حيارى:
أَ صحيحاً كانَ لنا شنـآنْ ؟
يغضبُ منّا التاريخُ
ويدبرُ..
نومئُ نحو مناقبِنا
بهديرِ اللغةِ الأولى.
رَجْعُ الصوتِ
عجولاً يمطرُنا بالهذيـانْ
حيارى يا بابل
تطردُنا الأبوابُ..
شتاتاً تنثرُنا الأزمـانْ
لا بيتَ لساكنهِِ.
يستفحلُ بالقافلةِ التيهُ
وسراباً
خادَعَنا العنـوانْ
مجهولينَ
كنطفةِ أمشاجٍ
تجهضُها الغربـانْ
*
الطريق إلى بغــداد
ضلَّ الطريقَ ..!
ذاتَ حلمٍ
تاهَ بي زمني
بل.. تهتُ في زمني
لأضيعَ في المعقّدِ الزمني .
*
في " الباب المعظّمِ "
يتصايحُ الباعةُ المتجولون
وإلى معسكراتهم يتراكض الجنود
و .. لم أرَ قطَّ في البابِ ما يُعظّم .
في ساحة الميدان
انتظرَتْني نازكٌ بإهابٍ أسود.
كان ثـمّةُ ميدانٌ غابرٌ بلا خيول.
وذاتَ مساءٍ ودّعنا أنا وأحمدُ زوجاتِنا.
في شارع الرشيد
وجدتُ كلّ شيءٍ
ما عدا الرشيد.
قبالةَ نصب الحرية
لم يبقَ في ساحة التحرير
ما ينمُّ عن التحرير
وقبضَ ريحٍ كانت الحرية.
وخلفَ نصب الحرية
لم يبقَ من الأمة
سوى حديقة الأمة.
وأمام جدارية فائق حسن
يتكوّمُ ريشٌ كثيرٌ
هو كلُّ ما تبقّى من الطيران
في ساحة الطيران.
كان البابُ الشرقيُّ
يغرّبُ بالناسِ
وهم يهمّون بالتشريق.
مندفعاً لثنيهِ عن قراره
فتّشتُ في شارع السعدون
عن السعدون
فغلَبَني وأنتحر.
وحولَ جثتهِ
تهمهمُ ساحةُ النصر
عن نصرٍ غير مرئي.
وإذ ذهبتْ به الحربُ إلى ميدانٍ معلوم
لمحتُ بقايا نصب الجندي المجهول
تتعالى نُصِبَاً للجيش المجهول.
وقبل أن أعودَ في لجّة المعقّد الزمني
لمحتُ مريديان وشيراتون يتهامسان
لإيجاد حلٍّ سريع لضياعي المقلق.
فقررتُ أن أكونَ الجنديَ المعلوم
قبلَ أنْ يجهّلاني.
لكنهما أمسكا بنواياي
قبل أن أفلحَ بالشجاعة.
قتلا كلّ جزيئةٍ بي
واستبقيا لي عيناً.
وفي لحظةٍ ضوئيةٍ من زمن التيه
اقتتلتْ فيها الأزمان
شاهدتُ من خرم العين
أفواجاً من الأيدي
تدحرجُني على موزائيك الاستقبال
في فندق بابل
لأشهدَ
- قبل الإغماضة الأخيرة –
أن بابـلَ
- رغمَ أنفي -
مازالت قائمةً!!
*
تركتُ لهم جثتي لينعموا بحفلة الشواء
وخلسةً تسلّلتُ تحت جنحِ الضجيج
طائراً غير مرئي
أبحثُ عن شاعرٍ يحسنُ الرثاء.
* الشعراء فقط يقتنصون التحليق اللامرئي.
والقصيدةُ تجعل الموتَ أكثرَ جلالاً.
كثيرةٌ جسور الشهداء
بَيْدَ أنّ لـ جسرِ الشهداء مهابةً خاصة.
هناك - تحتهُ – غدا الماءُ أسودَ ذاتَ يوم..
هناك – شمالاً – استُـنْـصِـرتْ المعرفة..
هناك – يميناً – كان غبار الكتب في السراي
يطهّرُ عقولَنا من البلادة.
هناك – فوقه – ذهبنا أنا وليلى إلى الزواج.
هناكَ – أمامَهُ - /كيفَ لم ألتفتْ ولم أنحنِ!؟/
شامخاً كان الشعر.
- لعلّ الرصافي يرتجل المرثية !
وكما مارَ بداخلي الترّقب عاجلَهُ الهلع
فأومأَ لي بالتخفّي خوفاً من خفافيشَ دَبِقة.
قلتُ : أنتَ وحدكَ مَن يراني !
قالَ : الشرطةُ أيضاً.
• ذي خلاصةٌ أخرى:
الشعراء والشرطة
يقتنصون التحليق اللامرئي.
سارعتُ أخترق شارع الأمين
الذي لم يعدْ أميناً
لألوذَ ببقيّةٍ من الجمهورية
في شارع الجمهورية،
بيْدَ أن أمانة العاصمة
التي لم توّفر الأمان لأمينها
كادت أن تكنسَني لتطهّر العاصمةَ مني
فهربتُ مستغيثاً بالخلاّن
في ساحة الخلاّنـي:
دارتْ بي كعاصفةٍ لولبية
ورمتْني مثلَ شحّاذٍ مدمّى
عند عتبة باب الشيخ.
البابُ موصدةٌ
والشيخ عمر متعثراً بخطواتهِ
ذهبَ ينشدُ موطئَ قدمٍ بعيداً:
جنوباً في سوق الشيوخ
التي هجرَها شيوخُها
ليلقوا رحائلهم في مضارب شيخ سعد.
• كم من الخيبات!؟
قلتُ : لأعود إلى الكفاح
في شارع الكفاح
مخترقاً أبا سيفين
- الذي لم يستّلْ سيفيه -
لأنتخي ساحة السباع
أن تطلق سباعها فينا.
وقبل أن يتشنّجَ حلقُها بالتلعثم
أدركتُ بأنها تداري ما لا يُقال!!
عدتُ .. أسخرُ من الفردوس الموهوم
في ساحة الفردوس..
طأطأتْ رأسَها واختبأتْ خجلاً
في فنادق حافظ القاضي.
• الفنادقُ شرطة.
يائساً عبرتُ إلى الصالحية
لعلّ فيها صالحاً يرشدُ إلى الصلاح!
بينما يستأجرُ أسدُ بابل شاحنةً
تعينُـه على العودةِ إلى بابل.
باغتَني الخراب
فأسرعتُ إلى الدوريين
أبحث عن بيتنا فلم أجدْهُ..
أبحثُ عمّن رآني ذات مرةٍ
برفقةِ امرأةٍ عجوز.
سألتُ المتحفَ العراقي
فلم أسمع سوى نواح الحضارات.
وعلى أشلاءِ الشوّاكةِ
يُسترجعُ من حيفا اسمُها فقط
ليرتفعَ في صناديقَ شاهقةٍ يقطنُها
أولئك الذين يجيدون الضحك.
تعلّقتُ بقدميَّ
وهرعتُ إلى مستشفى الكرام
أبحثُ عن عقاقيرَ لاستعادةِ الكرامة
فالتصقتُ بالسياج الحديدي
مثلما تسمّرتُ قبلَ ربع قرن
انتظرُ فهداً يطلعُ من رحمِ أمهِ.
غمرَ الماءُ عينيَّ
والزعيقُ أذنيَّ
في زحامِ علاوي الحلّة..
أخبُّ نحو ساحة دمشق..
لو أنّ قطارَ البصرةِ يبصّرُني!
لكنهُ تبغددَ
وأنا جئتُ متأخراً.
وثمّةُ عربٌ
تحت قبّة القيادةِ القومية
يتحاورون بجديّةٍ مفرطة
عن هدية الله للأمة العربية!!.
بقدمينِ بدويتين
زحفتُ نحو مستشفى اليرموك:
ليس سوى بقايا حروب..
ولم تنتظرني شذى كعادتها.
ولم تكن ثمّةُ جدوى
لأعرّجَ على الحارثية
فالناس هناك يحرثون البحر
وأنا أبحثُ عن حرثي الضائع.
وحين رأيتُ أبا جعفر المنصور مهزوماً
قفلتُ راجعاً..
شعرتُ بالطيران هذه المرة..
لم أحلّقْ من قبل كما أنا الآن..
كان جناحاي يزعقان:
"ثورة .. جوادر"..
"ثورة .. جوادر" لأختبأَ
ثانيةً في منزلِ أبي سلام
لأهربَ صباحاً من ليلِ حديثهِ
حول البرجوازية الصغيرة!
أين صديقي علي حسين حفيان يا ترى الآن؟
كان يصفّق لي أكثر من سواه..
كان يحب الشعر
ويكره الانخراط في الأحزاب.
*
محاولة أخيرة:
سأمسحُ هذا الوطن شبراً شبراً بحثاً عن الوطن المُضاع.
هل سأجدُ بقيةَ خصبٍ في أبي الخصيب؟
السيّاب غريباً على الخليج يموتُ
دونَ أن تسمعَ البصرةُ صيحاتِهِ
وسعدي يوسف يكابدُ المنفى في عواصم لا تنتهي
والنخلُ يتصارخُ تحت أقدام البلدوزرات والجنود
مقتَلَعاً من أسطورة (الأشجار تموت واقفة).
......
على ضفاف شطِّ العرب حيث شطَّ عربٌ وعجم،
مضمّخاً بالطمي عنَّ لي تحت تمثال السيّاب
أن أصيحَ بالعراقِ: يا عرااااااااااااااااقْ!
نعـــاء
مَن يحرسُكِ
حينَ تنامين؟
ومَن حينَ تشيخينَ
يعكِّزُك؟ِ
ومن عند رأسكِ
حينَ تموتينَ ينوح؟
يا موتي..
ورأسي..
ونوحي..
وشيخوختي..
وعكازتي..
يا أنايَ المبعثرةَ في المنافي..
بلا ظلال....
ما برحَ ظلّي يمكثُ ساكناً
في قوامكِ القشيب.
***
نصـوص
(1)
أتيتُ بآنيةٍ عملاقةٍ لطهي الخراف.. وبما يغطّي جسماً آدمياً ملأتـُها بالماء.. حطبٌ كثيرٌ مشاعٌ من حولي.. ودون وجلٍ جمعتُ كثيراً منه.. لأول مرةٍ دون وجَل.. أمارسُ حريّة الجمع أو الالتقاط أو الانتقاء في ديارٍ مشاعُها الوحيدُ: الحطب..
وأشعلتُ النارَ.. كنتُ أغلي على نارٍ أخرى.. والماء يغلي بإيقاعٍ بطيء.. هامتي لم تلفتْ انتباه أحد.. لماذا أبحثُ عن الاكتراث؟ خبلٌ متأخر. كوّمتُ حطَباً يكفي لطهي بعيرٍ معافى.. ولم يلتفت عابرٌ بالتساؤل. ألهبتُ النارَ بريحِ الجسد العاصفِ دون أن ينبحَ كلبٌ أو أ
- / احتفلْ بالشقاءْ!!/، تلازَمَ النعيق.
- من أيّ سماءٍ خائنةٍ جاءتْ تلك الغربان؟ من أيّ جحورِ الخوفِ هرعتْ ديدانُ الخوف؟
فرادى.. عشراتٍ.. مئاتٍ.. تجمّعَ الناسُ حولي. صاحَ نسناسٌ بينهم اعتادَ أن يحشرَ ضآلتَه في جلد الأسد:
- "هاهو الآن فريستكم الهزيلة فانهشوا أوصالَهُ!".
وبحذر الكلاب الخائفة انقضّوا عليّ.. لكنني قبل أن أندمَ على شيء: ألقيتُ بنفسي في القِدر لأتوّحدَ مع نفسي. فانفضّتْ الكلاب ذعراً.. وتلاشتْ الكلاب.. ومع ماءٍ كفَّ عن الغليان كان حميماً حديثي.. وبقايا جمرات.. ومعاً ذهبنا إلى حقلٍ مهجورٍ عامرٍ بالحَلْفاء.. قيل
*
(2)
مرّةً كنتُ مختبئاً في محارةٍ لفظَها البحر فألتقطَها بحّارٌ مشاغب ودسّها في جيبهِ ونساها. أسمعُ عراكاً شجاعاً بين سفينةٍ وبحر.. الكلماتُ المصروخةُ ليست لغتي. لم أسمع شخيراً.. ولا أحاديثَ كسولة. لا صوت أنثوي.. رجالٌ فقط: في كرٍّ وفرّ. لعدّةِ مرّاتٍ شعرتُ با
• رنينٌ عربيٌ سبقَني قبل مئات السنين إلى بلاد الفايكنغ. وها أنا بعد مئات السنين أعود بلا رنين . أهلي ألقوا بيَ في البحر والفايكنغ أعادوني إليه.
• تضرّعتُ لكل الحضارات المدفونةِ في بلادٍ تحارب.. أن تمنحَني حفنةَ ماءٍ من السلام لأنعمَ بها دون أن أزعجَ أحداً!
(3)
من النافذةِ المطلّةِ على هوّةٍ سحيقة تدندلتْ الرقَبـ........ــةُ حتى انفصلتْ عن الجسد.. اندفعتْ الرأس بثقلها الساقط نحو جحيم المجهول. لا أحد ينتظر أحداً على بوابات الجحيم.
في فراغٍ أشبه باختناقات الأسواق الشرقية تطوّحَ رأسي. فراغٌ صلدٌ كالجدار .. تصطدمُ به أنّى ذهبتْ. كانتْ الرأس برقبةٍ متدليّة تسير مثلَ أفعى الكوبرا وبحذرٍ مخاتلٍ تتربّص بالخوف والآخرين. لا آخرون خارج رأسي.
دارتْ معارك طاحونة.. دماء غزيرة سالتْ.. وقتلى ملء الميدان.. وأيضاً: لا ثـمّةَ حرب خارج الرأس. وفي غضبةِ انفصالٍ وجوديٍ خرجتْ من الرأسِ رأسٌ أخرى تدعو لاكتشاف هذا العالم غير المرئي.. فأُصيبتْ بعمى فوري. العمى هناك هو عين الفراغ. بشراسةٍ حاولتْ الرأسُ المتم
وخلف النافذةِ المطلّةِ على هوّةٍ سحيقة مازالَ الجسد المترنّح بين عالمين - المعلوم الجزئي والمجهول الكلي – يترقّبُ رأسَهُ. وعلى الجذر المتبقي من الرقبة وجدتْ بابلُ فراغاً لتستقر عليه. وكما كائنٌ برأسِ إنسان وذيلِ سمكة – صارتْ لي رأسٌ بابلية. بَيْدَ أنّ كلي
وعدتُ أبحثُ عن رأسٍ في الجحيم وعادتْ بابلُ تبحثُ عن جحيمٍ في الرأس.. بـحَـثنا حتى خارتْ قوانا. وكما هو مصير القوى الخائرة!! كنّا نشمُّ عفونةً متناميةً.. ونرى من فوقنا ذباباً لطنينهِ إيقاعُ الاحتفال.. ومن حولنا يدبُّ دودٌ زحفاً نحونا دون خوف.. وفينا أصداءٌ
*
(4)
في مترو لندن لمحتُ بابلَ في الصباح تتزاحمُ وتتحاشى المفتّشين.
وأمام واجهات المطاعم الباريسية رأيتُها في الظهيرةِ متخشّبةً دون أن تجرؤ على الدخول.
وفي ليالي موسكو كانت تحتسي الفودكا.. وكما يفعل الروس.. تستنشق الخبز!!
وفي مطار ستوكهولم ترمي الجواز المزوّر في المرحاض وتبعث الحياةَ في أبٍ ماتَ بالسل لتعدمه سياسياً أمام شرطة اللجوء.
وفي الأرطاوية تختلطُ بابلُ باليرابيع والذئاب وكائناتِ دونية.
بادرتُها بالحديث.. فأبدتْ خَفَراً مفتعلاً وولّتْ سادرةً تتخيّلُ إنّ لها بوابةً عظيمةً يحرسها أسدٌ خارقٌ للعادة. البعض قال إنها مجنونة. وآخرون قالوا إنها بابل مزيّفة. وآخرون.. وآخرون.. وقيلَ.. وقيلَ.. بَيدَ أنّ لا أحدَ تفَحّصَ الترابَ المتساقطَ من كفيّها.
آخـر الكـلام
بابـل ..
يا بابـل ..
بُـحَّ الصوتُ.
وأندّسَ لسانُ القائلِ
في قبوِ اليأسِ
وتناثرَ عندَ المدخلِ
ريشُ الصوتِ
المبحوحِ
وخيّمَ صمتٌ
تتهدّمُ بينَ مداخلهِ
حيطانُ القولِ،
أو حيطان النيّةِ للقولِ
ونامتْ أشياءٌ شتّى.
مازالَ ثمّةُ عـراق
اندرستْ أسوارُ بابل
وتماوجتْ الأطلال الطينية
ونامَ التاريخ.
ذهبتْ بابل
جاءتْ بابل.
استيقظَ التاريخ
نامَ التاريخ.
الجغرافيا هي ذاتها.
تتحاربُ على ميدانِها الأقوام
... دونَ كلل.
دماء كثيرة..
وأمجاد..
وخيبات..
وطردٌ كلّي..
وغيابٌ كلّي..
وموتٌ لا يكفّ.
ومازالَ ثمـّةُ عراق.
...
..
.
(أغسطس 2000- يوليو 2001)