بغــــداهـولـم - علي ناصر كنانة

إلى - الميسلون:
العــــــراق...
غابَ أم حضَر.
***
ما
قبل
الأشباح...
...
أفكّكُ الحكمةَ في رحابكِ
وأنتمي للحظةٍ حبلى بموجزِ الحقبْ
لأعلن العصيانَ في ممالكِ الكلامْ
وأشتهيكِ نيزكاً يفتّتُ الغيابْ
وننحني معاً لقبّةِ الدمِ السخينْ.
*
ليعترض البحرُ...!
سأمجّدُ عينيكِ المورقتينِ موجاً...
عنباً يتدّلى الفجرُ،
وفحلُ حمامٍ يتبخترُ تحتَ العريشةِ
حين يباغتكِ الليلْ.
*
قلبكِ المفرقَدُ بالفُراتات والدِجَلْ
يغسلني بنسائمِ "الغرّافْ"...
أنا المنهكُ بشجون الرحيلْ
قلبُكِ اليغازلُني بالنخيلْ
يبني لنا فنناً في "الزقورة".
يا ابنةَ الناس...
الناسُ: ناسي
والعراقُ: عراقي
وأنتِ - سلامٌ عليكِ - امرأتي...
سلامٌ على جدائلكِ
المستبيحاتِ شوقي...
سماءٌ من السلامِ
على بساتينكِ وندى عشبكِ...
على الأرانبِ والعصافيرِ والحندقوقْ.
*
من الكأسِ يطلُّ عنقُكِ الفضيُّ...
ظمآنَ أَمورُ بالتهدّجاتِ والأماني،
منكفئاً على الفراغْ...
وكيف تثمرُ الأماني...؟
عبر آلافٍ من الأميالِ
كيف تثمرُ الأماني...؟
أم تُرى غدتْ بغدادُ
في جداولِ الكفاحِ
(سمّها جداولَ الحسابِ!):
بغداهولم...؟!
من الكأسِ يطلُّ عنقُكِ الفضيُّ
يرشفُ الحياءَ من جبيني
ويغسلُ السنينَ بالحنانْ.
أوهمتُهُ... لا يألفُ الوهمَ
- أنا أعرفهُ... قلبي -
ولا النسيانْ
*
سألتُ الدروبَ... أطولَها وأقصرَها...
يباغتني شوكُها بالعويلْ
جميعاً... تؤدي لروما
وما من طريقٍ تؤدّي لبغدادَ
لا تعذليني...!
شربتُ الفراقَ على مضضٍ
ثمَّ أثملني - ما صحوتُ - الهديلْ
*
عبْرَ ألفٍ من الخَذَلانْ
أريحُ جوادي
وأصغي إليكِ
بعينينِ هدّهما الانتظارْ
آخر الكلماتِ تلكَ...
إن لم نقلْها... تُقلْ
الدماءُ التي نزفتْ
منذ قرنٍ
ولقرنٍ ستنزفُ
لا تُكتملْ
إذا لم نعرَشْ مهابتَه
في السماءْ
ونخجلُ
حين تحتدمُ الهرطقاتُ
ونشتمُ دينَ الحروبِ
وننشدُ للحلمِ المُحتملْ
راحَ أملْ... جاءَ أملْ
لا أملٌ راحَ...
ولا جاءَ أملْ
*
تعالَيْ...
نُؤثِّثُ للحلمِ غرفتَهُ،
بالبخورِ نعطُّرها،
ونوقدُ صينيةً من شموعٍ
ونقرأُ آياتِ لهفتنا
ليستعجل الغائبونَ عودتهم .
كلّنا غائبٌ
غائبةٌ أنتِ
وأنا غائبٌ
وأصحابنا غائبونْ.
فمَن يتملّى الشموعْ...؟
ومَنْ ذا يهمهمُ بالانتظار...؟
ومَنْ يتضرعْ...؟
لمِنْ يتضرعْ...؟
وقد أدبرَ الحاضرون
تُرى يحضرُ الغائبون...؟
ولكنهُ الوهمُ ...
تعالَيْ...
ندفِّىءُ بالوهمِ أوهامَنا...
نحبّلُها
نتوهّمُ أصواتَها طَلَقاً...
ونغمضُ أعيننا
ثم نصرخُ:
- ها... ولدتْ...!
ثم يستذئبُ الاختصامُ:
بماذا نسمّي الوليدْ...؟!
*
يبعثرُني رماداً... فراقُكِ
وتأخذني الريحُ يمنةً وشمالا...
تلّوعني...
وتلتاعُ: ذا قلقُ واشتياقْ... ؟!
ويُدهشُها - تحملقُ بيْ:
هكذا - لا سواهُ -
يبدُّدكم - برحاهُ - الفراقْ؟
وما سكنتْ فوقٍ أرضٍ
هي روحي
معمّدةٌ تحت أسوارِ "أوروكَ"،
ولا داعبَها - واستراحتْ - مطرْ،
ولم تلتفتْ - مرةً - نحو عاذلْ،
وما طربتْ لهوىً...
كلّما عبرتْ بقعةً
جفلتْ لوعةً:
- آخ... ضعتُ وضاعوا...!
شروقٌ... غروبٌ...
غروبٌ... شروقٌ...
تعتعتُها الذكرياتْ...
لها وطنٌ - مثلُ حبلِ الوريدِ قريبٌ...
وبعيدٌ كما المستحيلْ.
لا قوافلَ من حولها
معذّبة بالسؤالْ:
[أقصيرُ طريقنا أم يطولُ...؟]
تتفحّصُ شمسَ الظهائرِ إذ استعرتْ...
تهاتفَ فيها الرمادْ:
[الشمسُ أجملُ في بلادي...]...
رجفتْ والتمعتْ قطرةٌ في العيونْ:
- اهدئي يا رياحْ!
نأينا طويلاً...
قليلاً.. لينأَ الفراقْ
هي ذي... أتحسّسُها:
لأعشابها عَبقُ المِسكِ،
أنوفٌ يضخّمها الكبرياءُ
ويكسرُها الحاكمونْ!،
عيونٌ مسمّرةٌ نحو "غودو"،
[وتلك التي مَلكَ القلبَ فيها]...
تلملمُني رغبةُ للعناقْ
هي ذي دارُ أهلي...
كلُّ شبرٍ يكابدُ:
ها أنذا في العراقْ
فدعيني هنا يا رياحْ!
على أرضهِ
طائراً يستحيلُ الرمادْ.
*
أليلُ... ذلك الليلُ
ملتبسٌ في الكلامِ... الكلامْ
ومحتدمٌ في العيونِ... الترقّبُ.
هل حلمتِ كثيراً كما يرهقُك الليلُ ذا...؟
وهل أوجزتْ - مرةً... هكذا -
حلمَها في سماكِ الليالي...؟
ألمحهُ - من بعيدٍ -
قريباً... مريباً
يحوّمُ فوق الجنائزِ
طائراً تنهشُهُ الحَسَراتْ.
انتظرناهُ تحت الجحيمِ
- تلَّبدُ أيامَنا -
أن يطلَّ من السَعَفاتِ
أليفاً... رؤرماً يشاكسنا بالبلَحْ.
ألمحهُ الآن - مثلَ الضبابْ -
قاسياً وكليماً ومنتفخاً بالمآتمْ،
*
لو رَدَحْنا طويلاً
ولَطَمنا صراخاً
واستعرنا أكفَّ المحبّينَ
لنلطمَ أكثر
لو تشابكَ كونٌ من المعولاتِ
وغيمٌ من الحزنِ
لن نستعيدَ الفقيدْ.
حَفَرنا لهُ قبرَهُ
مُذ كان غِرّاً...
وزيّنا الطريقَ
وأغوينا خطاهُ إلى التهلكةْ...
ثم قلنا له - بعد حينٍ مريبٍ:
إذا لم تبادرْ إلى الموتِ
هديناكَ للموتِ.
وحين تشظّى
رماداً عنيفاً
[بكينا... واستعرنا الباكياتِ]
فكيف نناجي رميماً
ونسأله أن يعودْ...؟
أمقتُها حقبةً...
يهوسُ المنشدينَ
الغناءُ لموتى.
أدعوكِ سيدتي للفراش!
متخمةٌ بالأجنّةِ أضلعُنا...
لنفعلَها...!
ثم تنّزُ أناملُنا:
جيلَها،
عيدَها،
حلمَها...
حلمَها الرحيبَ بحجم المنافي...
حلمَها الخصيبَ
حلمَها المعافى
من الضغائنِ والحبِّ - ذاتْ.
*
أنتِ
من القصيدةِ تطلعين
: (اللهمّ صلِّ...).
هامةُ النخيلِ فارعُكِ،
جذورُ الكالبتوس التي تتعشقُ بين عروقي،
الذهبُ اليقطرُ سنابلَ للغناءْ،
الموجُ البرونزيُ المتململُ
تحت جناحِ يمامةٍ عذراءْ،
"الملبّسُ" الذي لا يشبه سوى شيئين:
طفولتنا في "الرفاعي" الدفيىء
وأصابعكِ الشفيفة،
البحرُ اليمنحني كؤوس الحبّ والعجَبْ،
هذا الأناناسُ الاستفزازيُ الذي يربكُ الرصيفْ،
جوريةٌ غفتْ تحت مطرِ الثمالةْ...
تطلعين من القصيدةِ نبيّةً غير متعبّدةْ
أو آلهةً زمرديّةً في فضاءِ الخرافةْ.
تطلعين من ثناياي أنا العرّابُ
الذي تهاوى "خرابةً" من الآلامْ.
عيناكِ السومريتانْ
توقظان الأنين في بيادرِ الأشلاءْ.
الأحلامُ مغلقةٌ على جفاءٍ قاسٍ...
والجوادُ المنطفىءُ التمرّداتِ
الكسيرُ على مقاعدِ المتفرجين
مجهض ُ النظراتْ.
الحروبُ التي لا تستحي
تواري هزائمها تحت أكوامٍ
من رسومِ الأطفال والأغاني.
ونحن المنبعجين إلى الداخلِ يهدّدنا الزوال
والعالمُ لا تنقذهُ
سوى طاولةٍ بيضاء بلا قوائم.
وأنا لا أطمحُ لكرسي السلطةْ
أريد - فقط –
كرسيين - في مقهى عام -
متحررّين من التلّفتْ!
*
لم يخطىء قلبُكِ
وما أخطأَ قلبي
بوصلةُ الربّانِ أضاعتنا...
[وأيّ فتىً أضاعوا...؟!]:
أنا الممزّقُ... القوي...
كلُّ جرحٍ... يصيحُ بيْ
وأنا... أصيحُ بيْ
وقومي...
[قتلوا أميمَ أخي]
ويصيحونَ بيْ...
حتى غدوتُ صرخةً بلا مدى...
فانتخبي الرثاءْ!
*
في لجّةِ الغيابْ
سأغفلُ المكانَ... والزمانْ
وخائباً أضمّكِ
تسترُنا عباءةُ القصيدةْ.
فما الذي تنتظرين
خلفَ قامةِ المساءْ...؟
قامتهِ المديدةْ....؟
ما الذي تنتظرين...؟
"ليلةَ الحنّاءْ"...؟
لا.. لم يعدْ في قلبكِ المدمّى
مساحةٌ لجرحْ
ولم تعدْ ما بيننا
مسافةٌ لنَوحْ
تعانقتْ عروقُنا
في تربةِ المآسي
وأنجبتْ فسيلةَ البكاءْ.
*
ما
بعد
الأشباح...
...
العَتَباتُ مترعةٌ بالتضّرعِ
والدويُّ اللعينُ لا سماءَ تعارضهُ
منذ "زينبَ" تجرجرُ دهشتَها
على فضاءٍ رمليٍ خؤونْ،
يوقظُها - بعد قرونٍ ماتَ فيها الزمنْ -
هلعُ جسدٍ جبليٍ مكميأْ...
حتى جثةٍ طافيةٍ في الهورِ
مثرّاةٍ بألفةِ السمكِ... المخنوقْ!
الصحراءُ الرماديةُ
تحاصرُ عينيكِ الوقّادتينْ.
وهل ألقٌ
بعد كلّ هذا الدخان والرمال
والبكاء والشظايا...؟
كم من الرحى عنّفتْ جرشَها
ومن بين أنيابِ قدرٍ
مبقـّعٍ بالثقوبِ
وصدى الدماء
تنزلقينَ - أيتّها العنيدةُ -
نطفةً
لكونٍ جديدْ
وموتٍ جديدْ!
وهكذا أنتِ...
بين دهشةِ الزمنْ
وهمسنا الحزينْ
كلّما ارتعشنا من الحبّ
أو الحنين إلى الحبّ
نكتشفكِ بعد موتكِ الألفْ
حَصَفاً من الانفعالاتِ
يوقظُ أجسادنا المستكينةْ.
*
لو أغمرُكِ الآنَ بالقمحْ
لو أجلّل جسَدكِ المجرّحَ
بغيماتٍ بيض...
لتستريحي قليلاً...
وربما فسحةً للرثاءِ تلزمُكِ...
كيف تـماسكتِ
وأنتِ تلتمسينَ مَعْبراً
بين هذا الكم المريع من القتلى...؟
يا لشقائكِ...!
ويا لبؤسي...!
كونٌ من البحارِ أمامكِ...
وخلفكِ جرادٌ من الأعداءْ...
لا معتصماه في بطونِ القبائلْ...
لا عبد الرحمنَ... داخل ولا خارجْ.
إنهم يؤندلسوننا بـ "الأشباح" والبوارجْ.
وما أنفّكَ النخّاسُ
يبحثُ عن مزاداتٍ جديدةٍ لأشلائنا.
هو يغزو وهم يغزون...
ونحنُ بين غازيينْ...
الثاراتُ القبليةُ... والمعصَرنة،
المطامحُ... والمطامع،
الأقوياءُ... والضعفاء،
الأشقاء... والغرباء،
الأصدقاء... والأعداء،
كلهم...!
كلّهم...
في سنِّ رمحٍ ضغينٍ
تظاهروا برأسكِ العنيدْ.
طحنوا رميمَكِ
لتكون الفاتحةُ الأخيرةُ
على قبرٍ مأهولٍ... بلا شاهد.
ودائماً... هكذا أنتِ...
يضيقُ بكِ القبرُ
ومع الفجرِ
عاريةً تخرجين من المقبرة.
*
لو أنني الآن... بين ذراعيكِ!
- ذراعاك...؟!
عليَّ أن ألمَّ كفّاً من هناك
وساعداً من هناك
وأرممُّ عظاماً مهشّمةً
لأنعمَ بلحظةٍ مستحيلةْ.
أبدأُ بالعناق:
لحظةٌ تبدّدتْ في عروقي
ضاعتْ... وإلى الأبدْ.
وربما هكذا تبدو...!
لمعانٌ متضائلٌ
في حطامِ ذاكرةٍ سحيقةْ.
سنواتٌ تبالغُ في المضي.
وحيثما أمّددُ فسحةَ عناقي
يذعرني صدى ارتطامٍ بوهمٍ هزيلْ.
حتى الغناء الخارج
من مشاعات الروح تعارضهُ اللاجدوى.
وبينما شَرِهةً تتجاذبني المطاحنُ
ألملمُني متكوّماً في ظلالِ اللحظةِ:
اللحظةِ التي تبددّتْ في عروقي
اللحظةِ التي تتلاشى
في وَهمِ الزمنْ .
آهٍ بلا زمن
أنقرضُ رويداً رويدا
في غربة المكانْ .
المكان... المتردد.. النزق...
الموحش... العابث بأحلامي...
الساخر من كبريائي...
يوصدُ أبوابَهُ بازدراء
ملطِّخاً ملامح وجودي
بالوهم... أيضاً!
كم من الوهم...؟!
وكم استعصيتُ على الفناء!
تلاحقني العيون القاسية .
من العراق لم يتبّق لي
سوى لحظة...
لحظة غائبة...
لحظة للحلم...
أهكذا هي الأوطان...؟
هل ولِدنا خطأً...؟
أم أحببنا خطأً...؟
أم نحلمُ خطأً...؟
أعني ممكننا الوحيد:
جثةً مشوّهةً من الخسران
غدا الحلم.
*
أيُّ سفرٍ ممكنٍ إلى الوراء...؟
وأيّةُ تعرّقاتٍ مفتعلة
تستحضرُ أصيافاً تنأى؟
وأيّةُ عيونٍ محشوّةٍ بالرمل
تبصرُ أبعدَ من القبر...؟
يا كاهلَ تاريخي
دَثّرني بالأعشابِ والسعفْ.
أريدُ أن أستنشقَك قليلاً
لأنقذني من الاختناق.
فمّا دبجّنا خطابَ القاتل
وما برّرنا خطايا الجميع!
ورايتُنا - ثقبَّها الرصاص -
تلك دشداشةُ القتيلْ.
أيتّها البلادُ العصيةُ على التداني
شرفاً كانَ أم لعنةً
إننا أقبلنا عراقيينَ على العالم...؟
... ليس من الوطن سوى ماضٍ
ولا من الحاضرِ غير منفى
وما المستقبل...؟
أعني:
هديلَ يمامي
وتـمزّقاتِ روحي
وضباباً على نوافذ الآفاق.
*
كم من البحار... أن نعبر...؟!
كم من الحدود... نـجتاز...؟!
كم من القطارات؟
من البواخرِ والطائرات؟
تتقاذفنا
بين عواصمَ نائيةٍ جداً
عن حبل المشيمة.
لا "ميلا" ظنّت إننا
سنهاجمهم - باللجوء
من حيثما أتتْ طائرة!
ولا "أنّا" اعتقدتْ يوماً
أن هذا العراق
ينجب أبناءً للموتِ أو للتصدير!
وربما استنبطت أمي
مَثلاً جديداً
[لا قرية وراء ستوكهولم].
بلى... في آخر الدنيا!
ندور مع كروية الأرض...
عراقيون يموتون في بحر إيجه،
عراقيون يصومون أسبوعين
في قاربٍ ليتواني
ليفطروا في كعبة اللاجئين،
عراقيون يصلون الصين
طلباً للجوء لا طلباً...!،
عراقيون ينتظرون في تايلاند
قرار المهّرب الشره،
عراقيون يستصرخون معاهدة جنيف
في صحراء نجد،
عراقيون قاموا اثني عشر عاماً
من الحرب حباً بالحياة
ليموتوا كمداً في شققٍ خانقة.
ربما... رجماً للحياة!
عراقيون يتكاثرون في المنافي
عراقيون يتناقصون في العراق.
عراقيون...
من منفى إلى منفى
ولا منفى يؤدي إلى العراق!
*
وقد تلاشتْ الجهاتْ
ضِعنا...
تقلّبنا المواجعُ في اللاجهاتْ
من أيّ الجهات
بكلِّ حناجرنا
لو صرخنا سيأتي الصدى...؟
- لا جهاتْ...!
هواءٌ غريبٌ يجرّحُ الرئاتْ.
من أيّ الجهاتْ
ولو نسمةً من طفولتِنا
تحملُ الريحْ...؟
- لا جهاتْ...!
من أيّ الجهاتْ سيهرعُ المحبونَ
لو استجارتْ بنا المآسي...؟
- لا جهاتْ...!
من أيّ الجهات
سيبرقُ حلمٌ في عيونِ انتظاراتنا...؟
- لا جهاتْ...!
من أيّ الجهات
تأتي الجهات...؟
لا جهاتْ... لا جهاتْ...!
لا جهات إليكَ تؤدي
لا جهات تحدّكَ... أيّها المستباحْ!
لا جهات توازنُ أيدينا
لنسعفكَ... من غرقٍ مديدْ
أو في الأقل -
نشيّعكَ بحزنٍ جنائزيٍ جليلٍ
يليقُ بأحلامنا التي نأتْ معك...
لا جهات تلّمُ ضياعات الغريبْ
ولا... ترمّمُ تهدّماتِ الروحْ
لا جهات تصلنا بكَ
ولا جهات تـمدّدكَ إلينا.
أيُّ تضاؤلٍ يعصركَ هكذا...!؟
وأيةُ تساؤلاتٍ ترتطمُ بجدرانِ الخيبة!
لا جهاتكَ...!
ولا جهاتنا...!
وقد أضعنا الجهاتْ!
لا أبواب يطرقُها المحبونْ
ولا أبواب تواجه الغرباءْ.
هكذا؟! يا لتعاستنا..
مشرعونَ...
لا جهات... ولا أبوابْ!
*
كم من المحبّينْ...!؟
كم من الأشياء العزيزة
تنتظر النَعْيَ...!؟
لا نهرَ نستلقي على ضفافهِ
دون ضجيج.
ولا نخلةَ نستكين إلى فيئها
من ظهائر التيه.
لا نخلةَ من ظلال الطفولة
لا نخلةَ من بساتين الصِّبا
ونخيل لا يحصى يهاجم الذاكرة.
أعدّي سفينتَك العملاقةَ أيتّها الذاكرة...
اختزلي الكون وانتقي
من كلّ زوجين اثنين
وعومي في عباب الطوفان...
أيتها الذاكرة
مرسانا اليتيم
في رحلة اللاوصول
من قسوة الجفاف
إلى وهم الضفاف!
*
لا أول الراحلين...
ولا أول القادمين...
لا أول الهمِّ
ولا آخر الهمِّ...
هي هكذا...!
لقد "خُبِصَ الغَزْلُ"
وانتحبت امرأةٌ مخيِّبة.
تقاطعات... تقاطعات حادة.
وهناك...
في نقطة الموت:
بؤرة التشابك
يحتضرُ النبض.
عيونٌ قرينةٌ للشتائمْ
عيونٌ قرينةٌ للتجارةْ
وأخرى قرينةٌ للدسائسْ
وعيونٌ... خناجرْ
وقرينةٌ... للرصاصْ
و..... دماءْ
أمّاه...
لقد خذلناكِ...
لا تعتبي ولا تنتظري.
هي هكذا...!
كما لا تصدّقُ عيناكِ:
سيوفٌ باليةٌ
سكاكينُ مخبوءةٌ،
والخناجرُ التافهةُ التي تعرفين!
تترصّدُ.. كلّها تترصّدُ
أن يهبطَ الطيرُ من كوكب الأمنياتْ!
تصوّري!
من كوكب الأمنياتِ أن يهبطَ الطيرُ
على باحةٍ من لهاثٍ لعينْ...!؟
فهل يهبط الطيرُ...؟!
.....................
.....................
وعيونٌ مجرّحةٌ بالحبّ والانتظارات
هل تجنّب القتيلَ مزيداً من القتل...؟!
*
ضجيجُ القلق يتسّربُ إلى النافذةْ...
هديرٌ متصاعدٌ في غرفةٍ دائخةٍ بالدخانْ.
ارتطاماتٌ مجنونةٌ تهزُّ أعمدةَ الروحْ.
أنقذُ رأسي من الانفجارِ بكفيّنِ مذعورتين
باحثاً - ما بين البابِ والنافذة -
عن سببٍ أو ردعٍ لذعري...
النافذةُ ما زالتْ متماسكةً
تحدّقُ في شارعٍ سويديٍ أبيضَ... وساكنْ.
الجدران ما زالتْ تحتضنْ لوحاتها.
السيجارةُ التي عجزتْ عن حملها أناملي
ما زالتْ حيّةً... وإن أقل اتقاداً.
الارتطاماتُ وحدها تزلزلُ تماسكاتِ الروحْ...
ثمَّة بلدُ قصيٌ يُهدمْ...
ذا وطني...
يا للفجيعة!
أعدّي لأحدنا التابوتْ... حبيبتي
وأمنعي منافقي المآتم
أن يعربوا عن أسفٍ كاذبْ...
اختلفوا كثيراً أو قليلاً..
لا فرق!
لقد خسرنا جميعاً!!
ولا منتصرَ سوى "الماموث"
وما (يبقى في الوادي غيرُ حجاره!).
*
ممّزقاً... كما ترين...
من القلبِ إلى الجيبِ.
كم من الحطامِ أزيلُ
لأشعر - ولو شعوراً -
بخطوةٍ ليستْ إلى الوراءْ...!
كم من الدموع أذرفُها
لكي ينامَ كلُّ هؤلاء الموتى الأعزاء
دون أن يشعروا بندمٍ ما...!
كم من الحلم.. من الوهم.. من الانتظارات
كي تُقبلَ الحياةْ...؟!
أيُّ قلبٍ ...؟!
قولي: خرابةً..
حقلاً من الهشيم...
بقايا ارتعاشاتٍ لم تبردْ بعد.
ما الذي ينقذ النهر من الاندثار...؟
- أيّ نهر...؟
- ذاك... حيثما نغتسل
حين تفاجئُنا فورةُ الحب.
- آه... ماذا تقولين؟
القلبُ الكبير الذي كان يُدَثِّرُنا بالماء
محاصرٌ بالجفاف.
السباخ تزحفُ في ثنايا حديقة المنزل.
لا غيمةَ تنبّىء بشيء...
ليس سوى غروب مبكّر كئيبْ.
حتى الشموس التي اختزناها طويلاً
أنهكها الثلجُ والبعاد.
* لنتفقْ!
- تعنينَ: لنبقى؟
* محاولة حب.
- محاولة حياة...؟!
* بعضُ قلبٍ
- على بعض قلبٍ
تستنفرُ ارتعاشةً كافيةً
لخلخلةِ السكونْ،
لعلّ مرّةً تفتحُ بغدادُ ذراعيها
لتنعمَ بكلِّ هذا الحبْ .
اقتربي...
اقتربي جداً...
التصقي بيْ...
إن قشعريرةً متشظيّةً
تبعثرني: لغربان الخيباتْ.
...... منذ موتِ الصباح
منطفئاً على خدِّ أمي:
تصرُّ مع المساءاتِ أنينَها الأخير
وتبعثٌ صلواتِها لسماءٍ قاسيةْ.
ليس من صباحٍ
سيحملُ طائَرها الذي غابْ ...!
الاسم الذي تكسّرَ على شفتيها اليابستين
لم يطهّر كتفَهُ بخشب الجنازةْ،
تقلّبهُ إيلامات المنفى
من سكّينٍ إلى سكيّنْ
ماتَ الصباحْ...!
وبارداً ينزوي إبريقُ الشاي،
هي تغيب.. وأنا أغيبْ...
هي تغيب.. وأنا أواصل عقوقي!
أنتِ تبكينَ هناك
وأنا أبكي هنا...
مَن سيكتبُ مرثية المراثي...؟
الوطنُ المسجّى على لوحٍ عملاقٍ
كان وطننا البهي،
كان حلمُكِ عملاقاً
فأهدوكِ موتاً عملاقاً...
ماتَ الصباحْ...!
... لغربان الخيباتْ...
منذ تكاثرَ (أحفادُ الله) في الأرض!!
حافياً تطاردني العقاربُ
أنىّ هبطَ خطوي...
منذوراً - رغم أنفي -
أضحيةً لتهيؤاتٍ خرافية
مذبوحاً قبل ولادتي
ومبقوراً بعد ولادتي...
يتلذّذُ برائحة الشواء
سلطانٌ يحكمُ المقابرَ
ويصادرُ المدنْ
كنتُ أختبىءُ في جلدي
محترساً من وشاية القميص،
حَذراً أن يستفَّز حذائي أحداً،
مضطرباً بين ما لايجوز وما يجوزْ...
حتى ألفيتُني في الجُبْ.
منذُ...
سبحتْ أكفٌ في الفضاء
فامتلأتْ الضفاف بالدماء والأقمارْ.
منذُ...
كان عويلاً على الهاتف.
بغدادُ موحشةٌ بلا "جميل".
وليس سوى الحرب تتبخترُ في الشوارعْ.
منذُ...
سقوطِ الكلام
وتصالحِ الرذائل والفضائل
تناذلتْ البوصلاتُ وضِعْنا...
أيّها الأصدقاء الذين نسفتْكم الحروبْ
أيّها الأصدقاء الذين ابتلعتْكم السجونْ
أيّها الأصدقاء البعثرتْكم المنافي
أيّها الأصدقاء المطمورن بالخرابْ
وحيداً (أمضي مع الجميع)
أتعثُّر بظلالِ أوهامي
هرِماً يتلفُني التقادمُ الفارغُ للسنين.
وحدكم أطفال الذاكرةِ المدلّلين
بأمومةِ الثكلى يدّثركم هلعي
تقاسمونني الرحيل أينما حللتْ...
تبكون أكثر مما أبكي
وتبتسمون بمرارةٍ
حين تروني مهرولاً
بين نافذتي الغياب والحضور
متعّثراً بالبياناتِ والجرائد!
*
اكتوبر 1990- ديسمبر 1993 ستوكهولم
***
إشــــارات
وردت في النص احالات كثيرة تجدر الإشارة إليها:
• بغداهولم.... توليف لغوي بين بغداد وستوكهولم ذو دلالة يبوح بها النص.
• "ما قبل الأشباح"... ترميز للمرحلة الكارثية التي بدأت مع الثاني من آب/ أغسطس 1990. فيما ترمز "ما بعد الأشباح" لمرحلة ما بعد 17 كانون/ يناير 1991.
• الزقورة... زقورة أور في الناصرية... جنوبي العراق.
• الحندقوق... نبات بري..
• صينية الخضر... طقس شيعي في مناجاة صاحب االزمان: المهدي المنتظر.
• (بودّي لو أستعير كفوف الآخرين لألطم على رأسي) من رسالة شخصية من الميسلون عام 1991.
• الملبّس.... حلوى عراقية بدائية الصنع ارتبطت بطفولتنا.
• الرفاعي.. حيث جنى عليَّ أبي.
• ليلة الحنّاء... الليلة االتي تسبق ليلة الزفاف في التقاليد العراقية.
• (كم تحمل الباب إذلالاً حين لا تكون صاحب الدار) من رسالة شخصية من كاتب النص إلى الشاعر سعدي يوسف.
• الماموث... بكل دلالته الواردة في رواية حيدر حيدر (وليمة لأعشاب البحر).
• ما يبقى في الوادي غير حجاره... من رواية اللاز للطاهر وطار.
• أحمد النعمان ... رسام وصحفي عراقي أقام عدة عقود في موسكو.
• كما حضرتْ في النص توظيفات تستفيد من أشعار معروفة للخنساء ، المتنبي ، أبو تـمام ، السياب ،، سعدي يوسف وسواهم ، إضافة إلى حضور جلال الدين الرومي وطارق بن زياد وعبدالرحمن الداخل وزينب أخت الحسين.
***
في ما يلزم ذكره
يزعمُ النص نزوعاً تجريبياً في بناء القصيدة ... وإذ تفرز سلطة النص تجلياتها للتعبير عن روحٍ ما في تجسيدٍ ما، تأتي (الهوامش الشعرية) شكلاً مغامراً استحدثتْهُ متطلبات الكتابة الشعرية لحالة معينة دون سواها .
وإذ يخرجُ الهامش جانباً عن البنية الأساسية للقصيدة المنسابة والكاملة دون تعكّزٍ مباشر عليه، فإن تلازمه معها يعطيها - ضرورةً - دلالةً أعمق وانفراجاً - أحياناً - على ما يحتدم به الواقع القاسي وما تضيق به اللغة الشعرية ... كما يأتي (الهامش) - في أحيان أخرى -
هي تجربة توافقَ إحساسي بها مع فاعليتها وضرورتها...ولا يعنيني كثيراً إذا ما كانت ستخلق القدر ذاته من التوافق لدى المتلقي ... فالكتابة الشعرية عندي مشروع ذاتي بحت ... منفعلٌ بالموضوعي من حوله ... كما أن إصدار ديوان - كما أرى - لا يشكل استفتاءً حول القصيدة .
وربما من أصدق ما قرأتُ توافقاً مع أريد البوح به ... انني كما تسامى سعدي يوسف شعراً :
أسير مع الجميع
وخطوتي وحدي!
***
هوامش شعرية
فأنتِ التي آمنَ القلبُ: قِبْلَتهُ/ فكل الذي كانَ... محضَ سرابْ...؟/ وخُينتْ خطىً... ما حسبنا/ لم يكن غافلاً... إنما/ استراحَ لغفلتهِ الناعمةْ/ وحاربَ ظلاً له/ ثم أمضى سيوفاً مخضبّةً بالندمْ.
يا لعُظم الوعودْ!/يا لعُظم الغيابْ!/ يا لعُظم انتظاراتنا!
عاقرٌ هذه السماء!
كان حلماً!
غافياً يتململُ تحت شاهدهِ/ شاحباً/ ونحن بلا خجلٍ/ نحشرُ آمالنا/ في جيوبِ جثتهِ.
لستِ وحدكِ!
أليسَ لي زمنُ...؟
وأيُّ مكانٍ سيقبل المخلوعين عن تربة الزمن...؟
اللعنة على الأبواب الغريبة!/ كم تحمل الباب إذلالاً/ حين لا تكون صاحب الدار!؟
ما زلتِ تسمّينه القلب...؟
عبر خمسة وعشرين عاماً زار أحمد النعمان عواصم العالم ما عدا اثنتين: بغداد وتل أبيب. - إيهٍ أحمد. لقد عاد الفلسطينيون!
ما الفرقُ بين ميتٍ وغائبٍ أكيدْ...؟ يا لتفاهة السلامة!!